بعد تحقيق المعارضة السورية لانتصارات جديدة في حلب هذا الشهر، تمكنت هذه الفصائل في الأيام القليلة الماضية وبدعم مباشر هذه المرة من تركيا من دحر تنظيم الدولة من جرابلس القريبة من الحدود التركية وإجبار قوات حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب المتحالفتين مع واشنطن إلى الانسحاب إلى شرق نهر الفرات وفقا لما سبق وطلبته أنقرة من واشنطن.
جاءت هذه التطورات بعد زيارة اعتذارية قام بها نائب الرئيس الأميركي جو بايدن لأنقرة لتوضيح موقف واشنطن من الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو/ تموز الماضي وضمن ترتيب ودعم من حلف شمال الأطلسي.
وكان من ضمن تصريحات بايدن أن الولايات المتحدة لن تقدم أي دعم للأكراد غرب نهر الفرات، وذلك وفقا لوعد واشنطن السابق بألا يتقدم الأكراد غرب الفرات، ما يشير إلى محاولة الولايات المتحدة تبديد قلق – وربما غضب- تركيا من الموقف الأميركي من الانقلاب الفاشل ومحاولة فتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين.
وتعتبر تركيا قوات سوريا الديمقراطية امتدادا لحزب العمال الكردستاني المصنف تركيًا وأميركيًا من التنظيمات الإرهابية، إلا أن واشنطن دعمت هذه القوات واعتبرتها حليفا لها في حربها على تنظيم الدولة وأرسلت لها خبراء لمساعدتها في في السيطرة على عين العرب ومنبج ومناطق سورية أخرى، رغم إدراك أميركا أن هذه القوات تخدم النظام السوري في حربه على المعارضة المصنفة بالمعتدلة!
تركيا قوية بعد الانقلاب
إن دخول قوات تركية لجرابلس، بعد تفجير غازي عنتاب الذي استهدف قاعة أفراح وذهب ضحيته أكثر من خمسين شخصا ونسب إلى تنظيم الدولة، يشير بوضوح إلى أن أنقرة لم تعد تخضع للحسابات الأميركية التي تقيدها في سوريا، وتحاول فرض حدود أمنها الإقليمي على الأرض دون أن يقتصر ذلك على تنظيم الدولة بل بما يشمل إبعاد الأكراد المتحالفين مع النظام السوري بأقصى ما يمكن عن الحدود التركية مع سوريا باعتبار ذلك تهديدا استراتيجيا لوحدة أراضي تركيا ومقدمة لإقامة كيان كردي على الحدود السورية التركية.
وحددت أنقرة منذ فترة نهر الفرات خطا أحمر لا تريد للمقاتلين الأكراد أن يتجاوزوه، وسبق لوزير خارجية تركيا أن صرح بأن "على المقاتلين الأكراد السوريين العودة إلى شرقي نهر الفرات وإلا فعلت تركيا ما هو لازم". ويعتبر ذلك محاولة لمنع الأكراد مستقبلا من تكوين حكم ذاتي مع الحدود مع تركيا أو تطور ذلك لتشكيل كيان كردي في المنطقة.
ويتوقع في هذا الإطار استمرار الضغط التركي سياسيا وعسكريا باتجاه خروج القوات الكردية من منبج باتجاه شرق الفرات، ومنعها من التواجد على الحدود التركية أو في حلب، استنادا إلى انتصارات المعارضة السورية الأخيرة في حلب والتي شكلت ضغطا عسكريا على النظام السوري وأفشلت الدعم الروسي له وجعلته يتجه أكثر نحو تسوية سياسية للوضع بالاتفاق مع تركيا ومحاصرة الدور الإيراني السلبي في هذا الموضوع.
ويستخدم تنظيما الدولة والأكراد أسلوب العمليات التفجيرية الإرهابية في تركيا في سعيهما لإضعاف الكيان التركي لأسباب مختلفة وإن كانت تصب في النهاية في محاولة إضعافه إقليميا وتوريطه أكثر في سوريا بما يعزز في النهاية سطوة واشنطن الوحيدة في المنطقة.
والهجوم التركي الأخير لا يمكن أن يكون بعيدا عن بناء تفاهمات جديدة مع روسيا – بعد الانقلاب الفاشل- والتي ربما قد تم التوافق فيها على محاربة تنظيم الدولة وإبعاد خطر الدولة الكردية على تركيا، كما قد تشمل مستقبلا التفاهمم على حل سياسي للأزمة السورية بالتوافق مع الدور الأميركي وبما يضغط على النظام الإيراني للتخلي استراتيجيا عن حليفه بشار الأسد والقبول بعملية سياسية تنتهي باستبعاده.
منطقة آمنة
ويقول قيادي بقوات "درع الفرات" التي تشارك فيها القوات التركية إن العملية الأخيرة، والتي قد تتضمن بقاء للقوات التركية في شمال سوريا، ستسهم في إنشاء منطقة آمنة داخل سوريا بطول سبعين كيلومترا وبعمق عشرين كيلومترا.
ولكن ذلك يتطلب المزيد من الانتصارات على تنظيم الدولة واستعادة منبج وإشغال القوات الكردية في حرب مع تنظيم الدولة في الرقة، وضبط الوضع الكردي في جنوب شرق تركيا، كما يتطلب تفاهما مع الولايات المتحدة قد تفرضه ظروف التغيرات في الموقف التركي وعوامل قوته الجديدة بالتفاهمات مع روسيا والانتصارات التي تحققها المعارضة شمال سوريا.
وإن كانت هذه القضية مثار خلاف قديم بين تركيا والولايات المتحدة، فإنها ستظل محل تطلع تركي باعتبارها تسهم في تحقيق أمن تركيا الإقليمي.
وقال وزير الدفاع التركي فيكري إيشيق إن الأولوية الاستراتيجية لتركيا هي منع الأكراد من الربط بين ضفتي نهر الفرات.
وتشير مجمل التطورات في سوريا إلى أن تركيا تستعيد قوة دورها هناك والذي بدأ يتراجع منذ بدء التدخل الروسي وتراجع مواقع المعارضة في حلب.
وتمكنت تركيا خلال فترة قصيرة بعد الانقلاب الفاشل من تغيير معادلة العلاقة مع روسيا ودفعت بأميركا إلى الاتجاه لتعزيز علاقاتها مع الدولة الحليفة وتفضيلها على القوات الكردية وربما التضحية بها مستقبلا.
فإلى أي مدى ستتقدم تركيا في دورها بسوريا وتنجح في فرض المنطقة العازلة هناك وتعزيز دورها في الحل السياسي بسوريا وفرض دور للمعارضة فيه؟ هذا ما سيتبين في الفترة القادمة وما يمكن أن يتحقق من إنجازات عسكرية فيها تدفع بروسيا وأميركا للتوصل لحل سياسي مناسب للأزمة التي دامت أكثر من خمس سنوات حتى الآن.