كتاب عربي 21

جمنة: قصة وطن.. أو كيف نصنع التنمية بضرب الفساد

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
هناك في تونس فلسفتان للتنمية والازدهار والرفاهية؛ الأولى، قديمة وهي منهج النظام خاصة منذ السبعينات، تقول إن التنمية والتطور غير ممكنان دون "دولة قوية" (بمعنى دولة قمعية)، وتسليم رقبة المرفق العام لشبكة المصالح النافذة وبالتطبيع مع الفساد. الثانية هي رؤية مهمشة وتعرضت للقمع المادي والرمزي، تقول إن التنمية والتشغيل سيحدثان عندما تكون لدينا دولة عادلة لا تميز بين مواطنيها، تكافح الفساد وتؤمن بتحرير المبادرة على قاعدة الصالح العام. 

ما حدث في قرية صغيرة في أقصى الجنوب التونسي، ولاية قبلي، هذا الأسبوع كان تمظهرا عمليا للهوة بين هاتين الفلسفتين. إذ قرر هذا الأسبوع كاتب الدولة للأملاك العقارية في الحكومة الجديدة منع بيع منتوج شركة تقوم بإنتاج التمور في قرية جمنة (ولاية قبلي). غابة التمور ملك للدولة وكانت على سبيل الكراء بناء على المحسوبية قبل الثورة، لكن بعدها قرر أهالي القرية التحوز عليها واستغلالها بشكل فعال، وبما أدى لتسجيل أرباح مهمة، استفادت منها البنية التحتية للقرية تحت إدارة جمعية تشاركية، مثلت نموذجا للاقتصاد التضامني الاجتماعي في مستوى محلي. 

وقام موقع "نواة" بتقرير إخباري وضح خلفيات القضية. حيث نقل ما يلي: "يوم 12 جانفي 2011، في عزّ الانتفاضة الشعبيّة ضدّ نظام بن علي ، توجّه العشرات من سكّان مدينة جمنة إلى ما يطلقون عليه ’هنشير ستيل’ (نسبة إلى الشركة التونسيّة لصناعة الحليب المعروفة اختصارا بـ’ستيل’) وسيطروا عليه، ليضعوا بذلك حدا لـ “المظلمة التاريخيّة” بحقّهم. فإلى حدّ ذلك التاريخ، كانت الدولة تُسوّغ الهنشير (كلمة مجهولة الأصل وتعني الضيعة الشاسعة)، الواقع على أطراف مدينتهم، على وجه الكراء إلى مستغلّيْن اثنيْن. نجح أبناء المدينة بسرعة في استعادة “أرض الأجداد” التي طالما حلموا باسترجاعها. استقدم المتسوّغان، اللذان يتّهمهما أبناء المدينة بالفساد وبالاستفادة من محاباة السلطة السابقة، الجيش من ثكنة إبلّي ليعيد لهما “أرضهما”. إلاّ أنّ القيادات العسكريّة خيّرت عدم مواجهة المئات من أبناء المدينة، الذين اعتصموا قبالة الهنشير طيلة ستٍ وتسعين يوما دعما لقرار استرجاع الأرض". 

واضاف: "نجحوا منذ استرجاعهم الضيعة في الترفيع من إنتاجيّتها، بل وضاعفوا الأرباح السنويّة، التي كانت بمعدّل 450 ألف دينار سنويا، حسبما أفادنا به السيّد محسن المزغنّي، أحد مساعدي المتسوّغ السابق رضا بن عمر بشركته للمقاولات، لتصل إلى 1800 ألف دينار بالنسبة لموسم سنة 2014. وذلك حسب ما ورد في تقرير مدقّق الحسابات الخارجي الذي تكلّفه جمعيّة الدفاع عن واحات جمنة سنويا بمراقبة تصرّفها المالي في الضيعة. الجمعيّة تصرف جزءا مهما منه في تمويل مشاريع تنمويّة لصالح أبناء المدينة. ومن أهمّها، كما عدّدها السيّد علي حمزة أمين مال الجمعيّة: بناء سوق مُسقّف وسط المدينة؛ بناء وحدات صحّية وتهيئة جزء من الساحة في المدرسة الابتدائيّة الكبرى بجمنة؛ بناء قاعة مطالعة وقاعة للأساتذة في مدرسة النجاح الابتدائيّة؛ إنجاز ملعب حيّ؛ دعم للمساجد وللمدرسة القرآنية، دعم مالي لمركز المعاقين المتخلّفين ذهنيا؛ دعم المهرجان الثقافي والاعتناء بمقبرة المدينة".

كان هدف كاتب الدولة الجديد هو تسجيل "هيبة الدولة". لكن ما قام به عمليا استئساد على مشروع مواطني يتم في إطار شفاف ويفيد الناس. 

تطبيق القوانين أحد أسس الديمقراطية، لا ريب في ذلك. لكن القوانين ليست مسطرة مجردة. هي تعبير عن سياسات ورؤى. عندما يصبح تطبيق القانون بشكل فج مانعا للتنمية وأداة لإعادة رسكلة الفساد وإحباط معنويات المبادرات المواطنية الخلاقة، يصبح تطبيقه من الناحية الرمزية هو الجريمة وليس خرقه هو الجريمة. وهنا تحديدا تأتي أهمية السياسة بوصفها فن تقدير المصلحة. 

عوض مصادرة محاصيل ضيعة "ستيل جمنة" يتعين على الحكومة إيجاد صيغة تجمع بين تطبيق القانون وتقنين مبادرة اقتصادية واجتماعية ناجحة، يمكن تحقيق ذلك بتحويل الجمعية إلى شركة وإعلان عروض طلب للكراء، بمواصفات تعطي أولوية للشركات المكونة من المواطنين أصيلي القرية وأيضا للخبرة. والحقيقة أي حكومة جادة في التنمية والتشغيل خاصة في سياق الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه تونس، يستوجب أساسا الاستئناس بهذه التجربة في التنمية المحلية وتشجيعها، ولم لا إصدار لقانون يعطي حوافز للبنوك لإعطاء الأولوية في تمويل المشاريع الصغرى والوسطى لمشاريع تشاركية من هذا النوع؟ 

في الحقيقة قصة جمنة هي قصة وطن. يأخذني ذلك إلى لحظات التأسيس للدولة الحديثة. لقد مرت تونس بتجربة "تعاضدية" أو "اشتراكية" خاصة في القطاع الفلاحي في الستينيات عندما كان الوزير، والنقابي، أحمد بن صالح على رأس عدد من الوزارات. تعرضت التجربة إلى الفشل وأيضا للتشويه، بما دفن بشكل حاسم موضوع الاستثمار عبر شركات تعاونية، وفسح المجال لاستثمار خاص تشوبه في ظل الاستبداد في حالات كثيرة وضعية المحسبوية والفساد. ونحن نواجه هذه التركة بعد الثورة ومع تمسك الأحزاب الأكثر تمثيلية، بتأثير المال السياسي، برؤى عتيقة وبالية تكرر المنوال التنموي الذي قامت ضده الثورة. 

كنتُ جلست سنة 2009 مع أحمد بن صالح، وهو كنز متروك من المعلومات كنت أود أن يجري معه الصحفيون حوارات مطولة من نوع "شاهد على العصر"، وتعرضنا بشكل خاص لتجربة التعاضد تلك. ومثلما أشرت في مقالات سابقة، فإن فلسفة ابن صالح لدواعي تجربة "التعاضد" تتعلق حسب روايته لما رأى فيه من نوايا الاستثراء من قِبَل بعض نخب الاستقلال، وبالتحديد من خلال وضع الأيدي على الأراضي من قبل المقربين من السلطة. يقول ابن صالح في جرد مختصر لنتائج سياسته: "البعض اعتقد أن الاستقلال زردة" (حفلة أكل) وأن "التعاضديات أنقذنا بها الأراضي من هؤلاء". يفند كذلك الاتهامات بأنه وقع إرغام جميع الفلاحين بالانضمام للتعاضديات ويتفاخر في هذا السياق بمبادرته إنشاء 40 صندوقا تعاونيا للقروض؛ (تقديم القروض الصغيرة التي يتم النظر إليها بكثير من المديح هذه الأيام) بالنسبة لـ "الفلاحين الذين لا يستطيعون الدخول في التعاضد".

من الصعب تقييم حصيلة التجربة الآن، لكن لن أمل من القول والتكرار إنه من المؤكد أن تاريخها لم يُكتب بعدُ. لكن من الواضح أن أي تقييم جدي لتجربة ابن صالح «التعاضدية» في حاجة للرجوع إلى أسئلة الستينيات هذه، بالإضافة إلى جرد وتصفيف وتحليل كل الوثائق الأرشيفية المتاحة حول تجربة، ربما ننسى أحيانا أن الكثير من المؤسسات التي أنجبتها (دواوين الزيت والقموح، والمؤسسات السياحية الأولى التي أسست لقطاع السياحة، والكثير من التعاضديات الباقية حتى اليوم... إلخ) كانت ولا تزال رموزا للدولة ما بعد الكولونيالية. وضمن هذا السياق بالتحديد، وعلى الأقل كأحد المساهمين في بناء هذه الدولة، بمساوئها وإيجابياتها، وبعيدا عن الهيمنة الأسطورية البورقيبية، يتحسر ابن صالح كثيرا عندما يرى مناسبة رسمية تتعرض لتاريخ المؤسسة الرسمية ولا تشير إليه بأي شيء. كان ذلك مثلا حاله عندما شاهد في صيف 2009 عرضا في التلفاز عن تاريخ القوانين والتشريعات الأهم في تاريخ البلاد، التي لم تتم خلالها الإشارة إلى أي من القوانين التي أسهم في إحداثها أو المؤسسات التي أسهم في تأسيسها مثل "صندوق الضمان الاجتماعي".
التعليقات (0)