شعب غلط، ورئيس بخته مايل في شعبه، رئيس صح لشعب غلط، على هذا المنوال يتم توصيف الشعب المصري الآن من مطبلاتية النظام وأبواقه، إذا اشتكى الشعب من الفقر والجوع صبوا نيران غضبهم عليه واتهموه بالرفاهية والميوعة وعدم تقدير الظرف الصعب الذى تمر به البلاد، فيديو قصير لسائق توكتوك يشكو من تدهور الحال وقصر اليد يتسبب في حملات ضارية ضد الرجل وتشكيك فيه واتهامات معهودة وبالية لتبعد النقاش العام عن محتوى الشكوى الحقيقي.
يطلبون من الشعب التقشف ولا يطلبون من اللصوص الكبار التوقف عن السرقة ورد الأموال المنهوبة، يرى المواطن مظاهر بذخ متوالية وبنود إنفاق سفيهة يتمنى لو أن أموالها تم توفيرها أو استخدامها في تحسين حياته ورفع المعاناة عنه، لكن أحلامه لا تتحقق ويستمر الإسراف هناك والتقتير هنا!
كأن الشعب هو الذي يحكم ويدير شؤون البلاد وعليه تحمل مسؤولية تدهور الاقتصاد وسوء الأحوال، كأن الشعب هو الذي يأخذ القرارات ويسن السياسات، كأن الشعب المغلوب على أمره يأخذ رأيه في ما يخص شؤون حياته! الموجة الإعلامية الحالية ضبطت إتجاهها لتصب في مسار تحميل الشعب المسؤولية ونفيها عمن يحكمونه وتبرئتهم من أي إخفاق وفشل وتبرير كل ما يحدث من انحدار عام لتضيع المسئولية وتنعدم فكرة المساءلة.
ينفد الإعلام فى مصر الاستراتيجية الخاصة بكسر نفسية الشعوب وتحميلها مسؤولية تخلفها (حتى تتمكن من السيطرة على الشعب اجعله يعتقد أنه هو سبب تخلفه وتأخره)، راجع ما تقوله الأبواق الإعلامية التي بدأت تسطر مرحلة جديدة من تزييف الوعي، فبعد أن كانت تروج للناس أن عليهم الصمت والانصياع والثقة في ما تفعله السلطة دون نقد ودون تشكيك صارت اليوم تطالب الشعب بتحمل المسؤولية مع السلطة وتوبخه وتصفه بأنه ترك السلطة بمفردها في مواجهة الأزمات والمؤامرات، وأنه يبحث عن مصالحه الضيقة!
هؤلاء الذين يبدلون جلدهم يوما بعد يوم لا يخجلون ولا يعنيهم كيف يحتقرهم الناس، بالتوازي مع ذلك ينفخون بإصرار مريب في بالونة الدعوة المجهولة المصدر للتظاهر يوم 11/11، هذه الدعوة التي لم تخرج من أشخاص ولا جهات معروفة وتبرأ منها كل وجوه التيار الثوري والديموقراطي في مصر لكن ما زال الإعلام يحاول إلصاقها بهم وترهيب الناس على نطاق واسع من فوضى محتملة، وهذا يذكرنا بالوهم الذى عاشته مصر في نوفمبر 2015 بما عرف بـ(الثورة الإسلامية) والتي انتهت إلى لا شيء واستغلها النظام للتأكيد على شعبيته ورفض الناس للتظاهر ضده، هاهو اليوم يعيد نفس اللعبة ومازال بعض السذج يساعدونه في إكمال الصورة وإنجاح المخطط.
شماعات الفشل استنفذت صلاحيتها في مصر من كثرة استهلاكها، لذلك لا بديل من التعلم من أخطاء الماضي وعدم السقوط فى الأفخاخ المنصوبة، ليس كل دعوة للتظاهر هي دعوة ثورية ينبغي التعامل معها بجدية والاستجابة لها، بل قد تكون الدعوة للتظاهر في توقيت ما مضرة للغاية بقضية الديموقراطية بشكل عام، وقد يكون التمهل والإنتظار حتى يستفيق الناس من أوهامهم ويصححوا اختياراتهم بأنفسهم هو الأولى، الأوهام الكبرى تتحطم فى مصر واحدة تلو الأخرى، ومستوى النضج والمراجعة يصل لطبقات وشرائح كان من الصعب إقناعها أن البلاد لا تسير في الطريق الصحيح، اليوم يختلف بلا شك عن اللحظة التى نزل الناس فيها ليشاركوا في تفويض السلطة في فعل أي شيء وإعلان طاعتهم التامة لها، حتى المؤيدين تتناقص شريحتهم ويضعف حماسهم ويزداد خجلهم بعد أن عايشوا بأنفسهم بؤس الواقع وتكسرت أحلامهم التى كانوا يؤيدون السلطة بلا تحفظ من أجل تحقيق هذه الأحلام.
السؤال من هو الطرف المستعد للفترة القادمة التى ستشهد بالتأكيد تغيرات واسعة، الوضع الحالي إذا تم النظر إليه في ضوء التجربة المصرية فى يناير 2011 يبدو أكثر صعوبة، قبل خمسة سنوات كان هناك قوى سياسية واضحة فى مصر سواء مدنية أو إسلامية وكانت تشكل في مجموعها – رغم اختلافاتها – ركيزة أساسية للشراكة مع أى نظام محتمل، الآن لا يوجد سوى النظام وأجهزته، تجريف السياسة وتأميم المجال العام يحاصر النظام أكثر مما يحاصر معارضيه!
النظام لا يفهم ذلك، فقد تصدر المشهد وانفرد به دون ظهير مدنى وسياسي، ما جعله يقف في مواجهة الناس بمفرده، أصعب اللحظات على أي سلطة أن تجد نفسها في مقابل الجماهير وجها لوجه بمفردها، ربما يكونون قد أدركوا الأن عاقبة ما فعلوه وشرعوا في البدء في تأسيس كيان سياسي موالي، لكن الحقيقة أن الوقت قد مضى وهذا المشروع محكوم عليه بالموت.
لحظات التاريخ لا تستنسخ، لكن الجهود المبعثرة حرث في الماء، واجب النخبة المؤمنة بالديمقراطية أن توحد رؤاها ورؤيتها للصراع الحالي في مصر وأن تستفيد من الحماقات التي تورطت فيها على مدار خمس سنوات، ربما تأتي اللحظة المواتية للنجاح لكن قد لا تجد من يجيد التعامل معها، التاريخ لا يرحم.