نصف شهر فقط يفصل بين مفارقة روح بائع السمك في الحسيمة، شمال
المغرب الحياة، الراحل "محسن فاروق"، في 28 من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وبين مفارقة بائع السمك
المصري الراحل "مجدي مكين" الحياة، أيضاً، الاثنين الماضي (14 من تشرين الثاني/ نوفمبر) في قسم شرطة الأميرية في القاهرة، وفي الحدثين يعجز أكثر مخرجي العالم خيالاً عن تصوير بشاعتهما، فضلاً عن شلل خيال أفضل المؤلفين عن مجرد تصديق حدوثهما في الوطن العربي بعد منتصف العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، فيُقتل شريفان من أبناء مهنة بسيطة على يد
الشرطة في الدولتين دون ذنب جنوهما!
مرارة لا تفارق روح كل شريف على امتداد دول من المحيط إلى الخليج؛ وهو يرى أنه في خلال نصف الشهر فحسب يُتوفى اثنان من أصحاب المهن البسيطة جراء بطش وجبروت الشرطة في المغرب ومصر على التوالي، وكأن رجالها المنوط بهم حفظ الأمن الداخلي، ومقاومة المجرمين، وبث روح الاستقرار في البلاد، صاروا أكابر مجرميها؛ الذين يتفنون في إنزال القتل والتنكل بالمواطن البسيط الذي يسعى على لقمة عيشه، كافياً خيره شره كما يقولون.
لقي "فكري" الله منذ نحو أسبوعين في ماكينة مخصصة لطحن النفايات، وقارب ذكره على الاندثار بعد توقف مظاهرات استمرت لأيام بعد مقتله، وقيل إن الواقعة تم إبرازها لإحراج حزب "العدالة والتنمية" المغربي، لكنها حدثت على كل الأحوال.
ولقي "مكين" ربه إثر
تعذيب مبرح على يد ضابط شرطة شاب في قسم الأميرية، لمجرد أن الضابط شتم الراحل في الشارع بأبيه وأمه وبأبشع الألفاظ، فرد الأخير عليه قائلاً في لهجة يعرفها جيداً "أولاد البلد" أو الأصول على طول عالمنا العربي:
ـ إنني في سن أبيك.. هل ترضى لأحد أن يهين أباك على هذا النحو؟!
فما كان من ضابط الشرطة إلا ان طارد الرجل، والأخير كان يقود مصدر رزقه وبضاعته..عربة تُعرفُ بـ(الكارو) يجرها حصان هزيل، وهي مخصصة لبيع بضاعته من الأسماك، وقد كان الراحل بعد يوم شاق باع بضاعة مزجاة كاسدة، ونال ثلثيّ قيمتها، وهو في طريقه لشراء طعام خاص بالحصان، بحسب موقع "مصراوي" الجمعة 18 من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.
طارده الضابط الشاب بسيارة الدورية المُشتراة من مال الشعب، بما فيه "مجدي مكين" نفسه، ومقتطع سعرها من قوت الأخيرة وأمثاله، واستمرت المطاردة حتى تم قلب العربة بصاحبها، وسحله وضربه في الشارع بقسوة، ثم اصطحابه إلى قسم الشرطة.
ليس من فضول القول أن أوطاننا، تماماً صارت أكثر من غابة، وأن الفارق بينها وبين الأخيرة أن قانون الحيوانات يقتضي أكل المتوحش منها الضعيف حين يجوع، أما على امتداد أوطاننا فيأكل أصحاب السلطة والسلطان؛ ما دونهم من الناس لمجرد إشعارهم بأنهم ليسوا بشراً أمثالهم، بل هم أنصاف أو أشباه آلهة، والعياذ بالله، ولذا فلا يجوز لأحد من عامة الناس، بل من خدامي العروش والجيوش والشرطة، أن يتفوه ببنت شفة عن العدل في حضورهم، فإنما هم ورثوا الناس، وقد ولدوا لهم عبيداً ومن الإحسان مجرد تركهم على قيد الحياة، كما قال مساعد وزير الداخلية المصري اللواء "حسن السوهاجي" للمعتقلين السياسيين بأحد سجون مصر منذ أيام قليلة.
وللأمانة، فإن المواطن الشريف في مصر وبلاد العروبة، إلا قليلاً جداً، معتقل شاء أم أبى، وإن لم يدخل المعتقل في بلاد لا تعترف بالإنسان، ولا تجيد إلا القمع، وتحاول الخلاص من كل لفتة تدعوها إلى الحرية إلا من رحم الله.
مشاجرة بسيطة بين "مجدي مكين"، صاحب الكارو الذي دفع حياته ثمناً لخمس كلمات قالها لضابط شرطة، مشاجرة مع صاحب سيارة أجرة متوسطة الحجم، من مئات المشاجرات في مدننا العربية تجري كل ساعة، ولكن دورية الشرطة كانت له بالمرصاد، كيف يحرص على "كرامته" ويرد على السائق ثم الضابط؟!
وفي قسم الشرطة أشعلوا فحماً لا ليشربوا النرجيلة (الشيشة) أو ليتدفأوا، بل ليضعوا عليه جثمان الراحل، ثم قطعوا جزءاً من عورته الأمامية، ووضعوا خشبة في الخلفية حتى مات.
لم تكن واقعة "مكين" الأولى في أقسام مصر، ومع كل الأسف اللازم لن تكون الاخيرة لا في مصر، بل على امتداد وطننا العربي، سبقتها في الكنانة طالب الطب "أحمد مدحت جاد" الذي برأه القضاء، الأربعاء الماضي، من ممارسة الدعارة، وهو الجامعي الذي قتلته الشرطة، وقالت إنه كان قواداً، رحمه الله تعالى؛ ولا رحم الظالمين المجرمين! والطابور طويل؛ حلقة فيه "خالد سعيد" قبيل 25 من كانون الثاني/ يناير، ومقتل "مكين" يُذكرنا به، إذ اتهمته الداخلية بابتلاع لفافة بانجو، فيما اتهم البيان الأخير لها "مكين" بحيازة 2000 حبة ترامدول زرقاء من التي اعترف بإدمانها اللواء "عباس كامل"، في أحد التسريبات الصادرة عنه أيام كان مدير مكتب قائد الانقلاب إبان عمله وزيراً للدفاع، ومن عجب أن إدمان "كامل" للترامدول واجب وطني، هو وأفراد العصابة التي تحكم البلاد، وتهمة لبائعي السمك البسطاء.
ومن عجب، من قبل، أن الترامدول الذي كان لدى سائق الكارو المتشاجر مع ضابط الشرطة كان ألفا حبة بالتمام والكمال، لم ينقص ولم يزد، وكأن كل شريف ساعٍ على أكل عيشه في مصر مدمن ومتاجر في المخدارت، ولذا فمن حق ضباط الشرطة إفناؤهم عن بكرة أبيهم، هم وشباب الجامعة، فكلما تشاجر ضابط أو مَنْ هم دونه مع مواطن اكتشفوا أنه إما يتاجر في المخدرات أو الأعراض أو.. إرهابي! وكأن أخذ الناس بالشبهات يقتضي قتلهم على الفور.
ولا عجب أن تداري النيابة على الواقعة، وأن يستبدل الطب الشرعي الواقع بالخيال فيقول إن الراحل كان مصاباً بالسكر وضغط الدم، فجرح في مناطق حساسه وأكل الفحم ظهره وفخذه، هذا بعد أن ذكر موقع جريدة "الأهرام" شبه الرسمي، الخميس الماضي إنه مات إثر انقلاب العربة الكارو عليه.
حادثة "مكين" قال عنها قسم الأميرية فور حدوثها إن الراحل لم يذكر لهم أنه مسيحي، بحسب قناة "مكملين" هكذا بمنتهى الوقاحة، فلو علموا ما قتلوه إذن، فمن يكرس للطائفية والحرب الدينية غير أولاء الذين لا يحترمون الإنسان والأوطان؟ فيما قال أحد الأصدقاء المسيحيين على موقع للتواصل الاجتماعي، مؤخراً، إنه كان يشتكي من التمييز في المعاملة في مصر، فلما مات "مكين" على هذا النحو، أقر الصديق بأنه آن له أن يموت مرتاحاً فقد عم الظلم الجميع!
حادثتا "محسن فاروق" و"مجدي مكين" تقول إن كل طوائف الشعب لدينا معرضة للقتل، طالما كانت شريفة، وإن كان "حزب العدالة والتنمية" وأمينه العام "عبد الإله بنكيران" أحال مسؤولين إلى التحقيق في المغرب، فإن الضابط الشاب قاتل "مكين" لم يبت ليلة في الحجز، وأفرجت عنه النيابة لتشترك معه في دم القتيل معه، ولتثبت أننا في فوضى شديدة المرارة، ولن يتخذ ضده إجراء حتى لمجرد ذر الرماد في العيون، وليلحق الأخير بالضابط الصغير المتسبب في وفاة 37 معتقلاً في سيارة الترحيلات بعيد الانقلاب، بالإضافة إلى ضباط آخرين، إن نجوا بخطاياهم في الحياة الدنيا، فلهم الله وهو كافيهم في الأولى والآخرة.
على أن الأمر مرهون بوعي الشعوب العربية وانتظار إفاقتها وتحديها للظلم والظلمة والعمل بجد وإخلاص لتحجيمهم، إن لم يكن إفناؤهم، وما ذلك على الله بعزيز، ولعل سقوط الضحايا من حين إلى آخر يكون مسامير إلهية الإعداد لنعوش هؤلاء.. وما ذلك على الله بعزيز ولا بعيد أو غالٍ!