أصبح من مسلمات الأمور وبديهيات الأشياء في
اليمن، أن الحرب والانتصار على الانقلاب واستعادة الدولة والجمهورية هي الطريق الوحيدة الإجباري للسلام في اليمن، ولا خيار آخر ثان غير الحرب والانتصار، لما للحرب من تعقيدات وجذور تاريخية لا يمكن تجاوزها بالذهاب نحو سلام موهوم وخادع في الحالة اليمنية، التي مثلت الحروب فيها متوالية هندسية مستمرة لا تتوقف إلا لتبدأ من جديد، لعدم الحسم مع الجذور التأسيسية للصراع
التاريخي بين اليمنيين كشعب وأمة و الإمامة كسلالة وفكرة خرافية تأسيسيه لصيرورة الصراع واستدامته.
فعمق الأزمة في اليمن كامن في تعقيدات مذهبية تاريخية ليس في بعدها الاجرائي المنظور من زاوية الحرب الدائرة اليوم بمعزل عن تلك الجذور التاريخية والمذهبية التي تمثل جذراً صلبا لاستمرار الحرب وتسلسلها إلى ما لانهاية، وتحولها إلى ما يشبه العقدة غير القابلة للحل في حال اجتزائها عنسياقها في كل دورة من دورات اشتعالها، ولا يمكن ذلك إيقاف هذه الحرب من زاوية اعتبارها حربا ينبغي أن تنتهي بوصفها حربا فحسب وليس باعتبارها حربا لها أسباب، وهي ليست سوى نتيجة طبيعية لتلك الأسباب.
فالحرب حينما تختزل في توصيفها الإجرائي كحرب مجردة من أسبابها هنا يصعب التحكم بعدم اشتعالها مرة أخرى، بل إن إيقافها يمثل مرحلة جديدة لاستئنافها بشكل أكثر ضراوة من سابقتها، فنظرة بسيطرة للتاريخ القريب، على مدى الخمسين السنة الماضية من عمر الثورة اليمنية، ودورات
العنف لم تتوقف إلا لتبدأ من جديد.
فبعد قيام ثورة الـ 26 أيلول/ سبتمبر 1962م التي عول عليها اليمنيون كثيرا باعتبارها نقطة تحول كبيرة في حياتهم، تفجرت بعدها حرب أهلية طاحنة بين الثوار الأحرار الجمهوريين الذين أشعلوا الثورة وأنصار الفكرة الإمامية التي أطيح بها، واستمرت هذه الحرب ما يقارب ثماني سنوات، انتهت بما عرف بالمصالحة الوطنية في عام 1970م التي وإن في ظاهرها انتصار لجمهورية الشعب، إلا أنه تم تفخيخها من الداخل بإفراغها من مضامينها حينما تم تصفية رموزها وإقصاء من تبقى منهم وإعادة الإماميين إلى قيادتها تحت الطير والعلم الجمهوري.
بمعنى آخر، فإن تلك الحرب التي دهست في طريقها عشرات الآلاف من اليمنيين، ذهبت تضحياتهم سدى، ليعاد إنتاج سلطة عشائرية عصبوية قروية، مثلت حاجز صد كبيرة أمام قيام دولة مواطنة متساوية لجميع اليمنيين، وانما سلطة عصبوية حاكمة احتكرت كل شيء في حدود بدائيتها وتخلفها وأعاقت تقدم المجتمع وعطلت كل محاولاته للسير نحو المستقبل.
وما إن هدأت تلك الحرب بتلك الطريقة الغريبة، التي كانت أيضا محكومة بتوازنات دولية وإقليمية كبيرة حينها، أجبرت اليمنيين للتوقيع على تلك الصفقة الكارثية، إلا لتنفجر مع بداية ثمانيات القرن الماضي - بعد محاولة انقلابية ثورية للناصريين1978م - ثورة جديدة في المناطق الوسطى، كامتداد لنفس المظالم والأهداف الجوهرية للثورة السبتمبرية الأم، وهي الاقصاء والتهمش والظلم الذي مورس في حق شريحة كبيرة من اليمنيين الذين كانوا المحرك الرئيس لثورة الـ26 سبتمبر، وإن اتخذت شعارات وتوصيفات جديدة لكنها في حقيقتها وجوهرها لم تكن سوى امتداد لتصحيح مسار ثورة سبتمبر المغدورة وإحياء لمضامينها وأهدافها المفرغة من الداخل.
صحيح أن حروب المناطق الوسطى اتخذت بعدا أيديولوجيا تماشيا مع موضة الأفكار وسوق السياسة حينها، وهي الصراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، حيث حسبت الجبهة الوطنية تابعة للمعسكر الاشتراكي المدعومة حينها من حكومة جنوب اليمن، فيما قابلهم الجبهة الإسلامية التي وقعت ضحية لثنائية الصراع واستخدمت فيه من حيث لا تشعر خدمة لتثبيت سلطة حكم عائلي عصبوي، مندفعة بحماس كبير حجبت عنهم مآلات ذلك الاندفاع السياسي في تلك الحرب التي لم يستفد منها سوى نظام صالح العصبوي ودولة الهاشمية السياسية العميقة الحاكمة لمفاصل نظامه حتى انقلاب 21 أيلول/ سبتمبر 2014م.
ومع بداية تسعينيات القرن الماضي، والإعلان عن قيام الوحدة اليمنية في مايو 1990م، التي تفاءل اليمنيون بقيامها كثيراً، بالنظر إلى اعتبارها محطة تأسيسه مهمة يمكن البناء عليها، لدولة المواطنة المتساوية والنظام والقانون، وهو ما تم الاشتغال عليه حينها بشكل جيد من قبل الفعاليات والمكونات السياسية، لكن لأن اللوبي الإمامي أو دولة الهاشمية السياسية العميقة الحاكمة لنظام صالح رأت أن تلك الأفكار التأسيسه خطر على مصالحها ومشروعها المعد له، دفعت إلى تفجير الصراع بين شركاء الوحدة وهما الحزب الاشتراكي وحلفاؤه والمؤتمر الشعبي الحاكم وحلفاؤه من الإسلاميين، الذين ربما وقعوا في نفس التجربة السابقة أيام حروب المناطق الوسطى وكرروا نفس الخطأ السياسي بالاصطفاف مع عصبوية صالح، على حساب مشروعهم الفكري والسياسي الوطني.
لكن الملاحظ، في كل تلك المحطات، هو أن المستفيد الوحيد من مسارات تلك الصراعات وحصاد نتائجها، كانت هي الهاشمية السياسية ودولتها العميقة التي أسست لها مصالحة 1970م، وقوتها صراع المناطق الوسطى بشكل كبير، فيما مثلت لها حرب صيف 1994م، محطة انطلاق جديدة على بعدين سياسي وتحشيدي مذهبي جماهيري تمثل بتأسيس تيار الشباب المؤمن الذي يعد الخلفية التأسيسية للحركة الحوثية الراهنة وقلب دولة الهاشمية السياسية العميقة في هذه المرحلة.
لم يكن انقلاب 21 أيلول/ سبتمبر 2014م، إلا استكمالا طبيعيا لمشروع تم الاشتغال عليه طويلا، مستفيدا من كل محطات الصراعات السياسية في يمن ما بعد سبتمبر 1962م. بمعنى آخر، فإن دولة الهاشمية السياسية العميقة، كانت المستفيد الوحيد من كل تلك الحروب كونها طرف غير ظاهر وتشتغل من وراء كواليس المشهد بالتمكين لأفرادها في مؤسسات الجيش والأمن وكل مؤسسات الدولة، والأهم والأخطر أنها اشتغلت على تأجيج الخلافات والتباينات بين خصوم وفرقاء الحياة السياسية وخاصة في مرحلة ما عرف باللقاء المشترك الذي كانت هي جزء فيه وتولت قيادته عدة مرات.
إن أي حديث عن
السلام اليوم بعيدا عن هذه السياق التاريخي للصراع ليس سوى عبث ومضيعة للوقت والبحث عن مخرج آمنل لانقلابيين الطائفيين، وتمكينهم من اليمن سياسيا، كما هو بالعراق ولبنان، وإن الطريق الأكثر منطقية اليوم هو القضاء على هذا الانقلاب وخاصة أنه لم يعد لديه شيء وفشل فشلا ذريعا وأوشك على السقوط بل قد سقط فعلا، لولا ضبابية رؤية
التحالف والشرعية تجاه التعامل مع هؤلاء الانقلابيين الذين باتوا يمثلوا ورقة إيرانية في خاصرة الجزيرة العربية ويراد اليوم من خلال خريطة كيري للسلام إنقاذهم وإعادة شرعنة انقلابهم من خلال سلام موهوم وخادع.