من المبكر تمييز سياسة
ترامب بشكل مفصل إزاء المنطقة العربية عموما وشمال أفريقيا خصوصا. يبقى أن هنا مؤشرات أولية تحيل على ما يمكن أن يدفع نحوه، وهو ليس بالضرورة ما سيستطيع فعله خاصة إزاء كتلة جمهورية في الكونغرس تناقض معها في أكثر من ملف.
ليس هناك أي وثيقة أو نص يحددان بشكل مفصل سياسة ترامب في شمال أفريقيا لكن هناك مواقف متفرقة تربط بينها نظرة انفعالية عاطفية يمكن أن تمثل أساسا لسياسة مفصلة في المنطقة التي تمتد من
مصر إلى موريتانيا. لنبدأ أساسا من موقف ضمني عبر عنه ترامب بشكل متكرر إزاء "الربيع العربي"، إذ كرر بشكل روتيني رفضه لسياسة أوباما التي تفاعلت إيجابيا مع الانتفاضات والثورات العربية واعتبر أن النتيجة الوحيدة للأحداث التي عصفت بالمنطقة هي بالأساس بروز "متطرفين". نظرة ترامب تبدو واضحة في اتجاه أن العرب والمسلمين سيكونون في وضع أفضل إذا بقيت المنظومة الأوتوقراطية التي حكمتهم لأكثر من ستين سنة، هي بالأساس نظرة احتقار، ورؤية دونية تستبطن مبدأ عدم قابلية العرب للديمقراطية. وهذه على كل حال أحد النقاط التي يتقاسمها ترامب مع التيارات الداعشية.
وعلى هذا الأساس، يغازل ترامب رؤية، من خلال تقريبه أشخاصا مثل الجنرال فلين الذي عينه مستشارا للأمن القومي، وأيضا "مستشاره للشرق الأوسط" وليد فارس، لديها مشكل مع الإسلام ذاته بما في ذلك أي تمظهر سياسي له وترى فيما حدث "خريفا إسلاميا"، وهي إحالة ليس فقط على التيارات "الجهادية" المتفرعة عن القاعدة ومن ثمة "الإسلام السياسي العنيف"، بل أيضا بقية طيف "الإسلام السياسي" بتفرعاته الإخوانية التي شاركت وتشارك في العملية السياسية في المنطقة، وعلى هذا الأساس، للذكر لا الحصر، كان هناك تقارب سابق للانتخابات الرئاسية بين ترامب وعبد الفتاح السيسي.
عموما لا يمكن أن نتفاجأ من أي غزل بين ترامب والنظام المصري، ما يدفع إلى ذلك ليس فقط توجه إدارة ترامب كما تتشكل الآن وقرب بعضها من السيسي بل أيضا توجهاتها الاستراتيجية. فتوجه ترامب نحو التقارب مع روسيا بوتين وأيضا نظام بشار الأسد يعني عمليا تقاربا مع السيسي.
غير بعيد عن مصر، من الواضح أن ترامب سيكون أقرب في المشهد الليبي من الجنرال حفتر، يمثل الأخير مع السيسي النموذج الأوتقراطي المعادي بدون تمييز ضد كل الإسلاميين الذي يبدو أن ترامب يرتاح إليه في عمقه، وبالمناسبة هناك مؤشرات على إحجام الموالين لحفتر من المشاركة في أي مفاوضات في الأسابيع القادمة لثقتهم في أن ترامب سيراجع السياسة الأمريكية تجاه حفتر وقواته خاصة في علاقته بالحصار على شراء الأسلحة.
في ذات الاتجاه، فإن الموقف من النظام
الجزائري لا يمكن أن يكون مختلفا عن النظام المصري، إذ أن موقف الجزائر غير المرتاح للربيع العربي وتحذيرها المسبق معه ودفاعها عن نموذج أوتوقراطي لا يترك إلا هامشا ضيقا لأي تداول سياسي جدي ومؤثر.
يبقى أن هذه الملامح العامة التي تبدو منسجمة ستصطدم ببعض التناقضات والتنافر عندما نضعها على ضوء السياسات التفصيلية ومصالح مختلف الأنظمة، لنبدأ مثلا بالسياسة المتوقعة في ليبيا أي تحديدا دعم الجنرال حفتر والتي ستقوي الحضور المصري والإماراتي في ليبيا، وهو ما ينظر إليه من قبل الجزائر بوصفه خطرا محدقا، إذ أن ما يمكن أن يبدو منسجما في واشنطن ليس كذلك بالضرورة عندما يتم تصريفه تفصيليا في الميدان.
الموقف في علاقته بتونس أيضا سيكون مؤشرا آخر على أن إدارة ترامب ستضطر إلى سياسات خاصة ومتباينة من الإسلام السياسي، إذ أن الملف
التونسي تقليديا في يد "أعيان" في الكونغرس من بينهم من هو من ألد أعداء ترامب، يتعلق ذلك خاصة بالسيناتور جون ماكين الذي تميز عموما بقيادة تيار قوي في الحزب الجمهوري دعم "الربيع العربي" خاصة في اتجاه عقد صفقة سياسية كبرى بين ما تبقى من التيار الأوتوقراطي التقليدي والإسلام السياسي المشارك في العملية السياسية.
بالإضافة إلى ذلك فإن ترامب لن يكون له ما يكفي من الأسباب للنفور من الوضع "التوافقي" التونسي الذي يقف بين المنزلتين.
يبقى أنه لن يكون بالضرورة متحمسا مثلا لمواصلة دعم الاقتصاد التونسي عبر قرض ائتماني كبير مثلما هو الحال الآن. وهو ما يمكن أن يعقد الأمور أمام الحكومة التونسية، إلا إذا رأى ترامب مثلا أهمية استراتيجية خاصة في دعم وتوسيع الحضور الأمريكي العسكري في تونس.
غير أن هذه النوايا والرغبات ستكون محكومة بعدد من العوامل أولها بلا شك الضغط الكبير الذي سيأتي من الكونغرس، خاصة من الجمهوريين، الذين يحاولون استباق أي تقارب مع روسيا بإصدار قرار يعتبر بوتين متورطا في جرائم حرب. هذا عدا عن التناقض الذي سيبرز في المشرق العربي بين معاداة إيران والتقارب مع بشار، خاصة على الميدانين السوري والعراقي، أخيرا فإن توجه الجنرال فلين مستشار الأمن القومي للتقارب مع أردوغان يمكن أن يكون لها تأثير حتى على ما يحدث في شمال أفريقيا.
فرغم كل الجهد المبالغ فيه لترامب حتى يظهر كشخص واثق من نفسه ويفهم تفاصيل ما يريده فإن المؤشرات الحالية تحيلنا على سياسة متنافرة ومقبلة على ضغوطات داخلية وخارجية لا بأس بها.