شهدت العاصمة الإماراتية، أبو ظبي، في أيار/ مايو 1981 اجتماع قادة دول
الخليج الست، فيما بات يعرف لاحقا بقمة التأسيس، التي تمخض عنها إنشاء مجلس
التعاون الخليجي، والذي جاء نتيجة للتقارب بين الدول الأعضاء، والتحديات التي واجهتها. ومع انطلاق أعمال القمة الـ38 في المنامة، ارتفعت الآمال بإمكانية التحول من التعاون إلى
الاتحاد، لا سيما مع تعاظم التحديات والاضطراب الذي يجتاح المنطقة، والتي تستلزم توحيد الصف.
نظريا، يبشر الاتحاد الخليجي بالعديد من التحولات الايجابية على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، إلا أن دراسة المعطيات الواقعية تظهر محدودية النتائج التي يمكن للاتحاد أن يحققها، وتقلل من جدواه.
مجلس التعاون الخليجي: دوافع التأسيس المعلنة والباطنة
على الرغم من أن القضايا الأمنية لم ترد في النظام الأساسي للمجلس أو ضمن نص أهدافه، إلا أنه لا يمكن التغافل عن السياق التاريخي المصبوغ بالتوتر والذي نشأ المجلس في إطاره، بداية من الغزو السوفيتي لأفغانستان واندلاع الحرب الباردة الثانية في 1979، وقيام ثورة الخميني في إيران وحرب الخليج الأولى بينها والعراق، الأمر الذي يجعل الملف الأمني أحد أبرز الدوافع الرئيسية وراء إنشاء مجلس التعاون الخليجي.
وفق الإعلان الرسمي، كانت الأبعاد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المشتركة هي الدافعة إلى تأسيس مجلس التعاون الخليجي، فأوردت ديباجة النظام الأساسي أن المجلس استند على تماثل الأنظمة السياسية ومصادر التشريع المستمدة من الإسلام، بالإضافة إلى وحدة المصير والهدف، وتم تحديد أهدافه في خمس نقاط رئيسية تركزت حول: 1- تعزيز التعاون والتكامل وصولا إلى الوحدة. 2- توثيق الروابط بين المجتمعات الخليجية. 3- خلق أنظمة اقتصادية متماثلة. 4- البحث العلمي المشترك. 5- إقامة مشاريع مشتركة في القطاعين العام والخاص.
الهاجس الأمني بدأ بالظهور جليا في شباط/ فبراير 1982 - أي بعد انعقاد اللقاء التأسيسي بعشرة أشهر فقط - بانعقاد الاجتماع الأمني الأول، وتأسيس درع الجزيرة بقوة رمزية، منذ ذلك الحين بدت القضايا الأمنية تتصدر أجندة دول الخليج وتتقدم على سائر الملفات، فتم توقيع اتفاقية الدفاع المشترك في عام 2000، والتي نقلت طبيعة دول المجلس من التعاون الأمني إلى الدفاع المشترك، ورفع عدد الجنود إلى 22 ألف جندي. وكانت عودة المحافظين من جديد إلى قيادة إيران في 2004، عبر أحمدي نجاد، عاملا آخر لتسريع عملية تطوير قوات درع الجزيرة وتعزيز تعداد قواتها الذي وصل إلى 30 ألف مجند في 2014، بالإضافة إلى طرح فكرة الدرع الصاروخي الخليجي لمواجهة أي هجوم إيراني بالصواريخ الباليستية.
هذه القفزات والاتفاقيات المتوالية؛ تبرز بوضوح عمق الهاجس الأمني في حسابات الخليج العربي، حتى وإن لم يكن قد ورد في ديباجته وأهدافه المعلنة.
التحليل النظري للاتحاد الخليجي
يمثل مجلس التعاون الخليجي كتلة جغرافية متصلة تتكون من مجموعة من الدول المتماثلة في القيم السياسية، والبنية الاقتصادية المعتمدة على النفط كمورد أساسي، والمرتبطة ثقافيا عبر عناصر اللغة والدين والتاريخ، وإثنيا عبر البعد القبلي العروبي، ما يحقق بيئة مثالية من الناحية النظرية لقيام ونجاح الاتحاد الخليجي.
فوفق النظرية الواقعية (Realism) - والتي تؤمن بمبدأ القوة كأهم عنصر في العلاقات الدولية - فإن تأسيس الاتحاد الخليجي من شأنه أن يعزز الحلف العسكري فيما بينها، وينقل قوات درع الجزيرة إلى أن تصبح تحت إدارة قيادة موحدة على غرار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ما سينعكس على موازين القوى في الشرق الأوسط، التي ستتعدل كفتها لصالح الخليج العربي.
أما في إطار الليبرالية الجديدة (Neo-Liberalism) فإن الاتحاد الخليجي سيلعب دور المؤسسة الوسيطة بين الدول، ويخلق الانسجام التام بين مصالحها، كما سيسهم تكوينه في رفع مستوى رفاهيتها الاقتصادية عبر التجارة الحرة، وتحقيق الاعتماد المتبادل، بالإضافة إلى تعزيز اندماج المجتمعات. وهو ما ينسجم مع الأهداف الرئيسية لمجلس التعاون حين تأسيسه.
أطروحة نظرية أخرى قد تدعم تأسيس الاتحاد هي البنائية الاجتماعية (Social Constructivism)، وتشدد النظرية على دور العناصر الاجتماعية والثقافية في خلق هوية الدول، وبالتالي تعريفها لذاتها ولمصالحها وطبيعة نظرتها للأطراف الأخرى، ووفق هذا الإطار فإن الدول ذات الثقافات المتشابهة تكون منسجمة سياسيا على غرار المحور الأنجلو- أمريكي، وعليه فإن تماثل الثقافات والتاريخ المشترك بين مجتمعات الخليج، لن يسهم فقط في خلق الاتحاد بل سيعزز من فعاليته أيضا.
بينما قد ترى النظرية الوظيفية الجديدة (Neofunctionalism) أن مجلس التعاون مثّل على مدى الخمسة وثلاثين عاما الماضية مؤسسة ما فوق سلطة الدول (Supranational)، تمكنت من خلق التقارب والانسجام بين سياساتها وتشريعاتها، ما يفتح المجال للانتقال السلس إلى تكوين الاتحاد، على غرار اتحاد الفحم والحديد الصلب الذي مهد لإنشاء الاتحاد الأوروبي.
وهكذا، فإن التحليل النظري يظهر أن مستوى الانسجام العالي على الاصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين دول الخليج العربي يعزز من إمكانية الانتقال إلى الاتحاد الذي ستكون له نتائج كبرى.
تحليل المعطيات الواقعية
يعيب التحليل النظري للاتحاد بناءه للنتائج استنادا على العوامل الداخلية بين دول الخليج، وإهماله للمحيط الاقليمي الذي تتفاعل معه، كما تنحصر حساباته للقوى في مقارنة دول الخليج بنفسها قبل وبعد الاتحاد، وليس نسبة إلى القوى الإقليمية. الأمر يستدعي توسيع رقعة التحليل لتشمل البعد الزماني الراهن وما يفرضه من تحديات، بالإضافة إلى إدراك الخليج مكانيا ضمن الصورة الأكبر لخارطة الشرق الأوسط.
جغرافيا، ورغم اتصالها ببعضها، تمثل دول المجلس التعاون الخليجي - باستثناء عمان- كتلة محصورة بين بحار داخلية تنتهي بمضائق لا تسيطر عليها هي: باب المندب في الجنوب الغربي، هرمز في الجنوب الشرقي، وقناة السويس في الشمال الغربي، ويتكرر الحصار بريا بتوغل النفوذ الإيراني شمالا من العراق إلى لبنان، ما يجعل الخليج في وضعية تشبه "الشيك ملك"، وهنا تبرز المعضلة الكبرى للاتحاد وهي إهماله للعنصر الجغرافي الذي بات أهم ميادين الصراع في الشرق الأوسط.
دمج البعد الجيوسياسي في الثقافة والوعي الأمني يمثل ركيزة أساسية في سياسات الدول، فعلى سبيل المثال أسس الرئيس الأمريكي جيمس مونرو - في بيانه أمام الكونجرس عام 1823 - لمبدأ حفظ الأمن في أمريكا الجنوبية ضد التدخل الأوروبي كجزء من الأمن القومي الأمريكي، وهو نفس المبدأ الذي يجب على دول الخليج أن تحذوه.
قيد آخر يحد من فعالية الاتحاد؛ يتمثل في الكثافة السكانية المنخفضة في الخليج العربي، فمن بين 51.4 مليونا يعيشون في دول المجلس يمثل السكان الأصليون أقل من 30 مليون نسمة، يتوزعون على مساحة جغرافية تزيد عن 2.5 كيلومتر مربع، في مقابل تعداد سكاني يتراوح بين 80-90 مليون في دول مجاورة على غرار تركيا وإيران ومصر. وتعتبر الكثافة السكانية أزمة متعددة الأبعاد، غير أن الأثر الأكبر يقع على محدودية تعداد القوة البرية لدرع الجزيرة، وجيوش دول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام.
ضمن سياق الحديث عن المعطيات الواقعية، لا يمكن تجاهل العنصر التاريخي الذي يظهر امتياز التعاون السياسي والاقتصادي بين دول الخليج العربي، ومحدودية كفاءة التعاون الأمني، وهو ما يمكن ملاحظته عبر تتبع المسار الزمني للمعضلة الأمنية الخليجية- الإيرانية منذ 2004، فعلى الرغم من التعزيز المستمر للتعاون العسكري الخليجي استجابة لكل تحرك إيراني، إلا أن الخارطة الحالية تظهر أفضلية الكفة الإيرانية، الأمر الذي يقلل من حجم التوقعات حول النتائج التي سيحققها الانتقال إلى الاتحاد.
أخيرا وليس آخرا، يتجلى التباين السياسي حول إنشاء الاتحاد، لا سيما مع سلطنة عمان التي تتخذ موقفا سلبيا من الانضمام إليه عبرت عنه صراحة في أكثر من مناسبة عبر وزير خارجيتها يوسف بن علوي، الذي أشار إلى أن بلاده لا ترى ضرورة تكوين الاتحاد، وأنها لن تكون جزءا منه في حالة تم إنشاؤه. عدم التوافق العماني الخليجي يأتي متصلا بالتباين القائم حول الملفات الشائكة في المنطقة، واختلاف الآليات الدبلوماسية بين عمان ونظيراتها، خاصة فيما يتعلق بالملف الإيراني، والذي ربما يكون الحافز الأكبر وراء تعجيل فكرة الاتحاد من جهة، ووراء التحفظ العماني من الجهة الأخرى.
على مر ثلاثة عقود ونصف منذ تأسيسه، استطاع مجلس التعاون الخليجي أن يصبح واحدا من أهم مؤسسات التعاون الاقليمية، ما يدفع إلى طرح فكرة الانتقال إلى الاتحاد الذي يبدو واعدا وفق الأطر النظرية، غير أن التحليل المتعمق للمعطيات الواقعية يظهر بأن الاتحاد قد لا يصل إلى صناعة الفارق المأمول منه، نتيجة للانحصار الجغرافي والتعداد السكاني المنخفض، بالإضافة إلى التباين السياسي بين أعضائه، ما يجعل الحل الرأسي قليل الجدوى، ويطرح على مجلس التعاون الخليجي ضرورة توسعة الأطر الاستراتيجية والانتقال أفقيا خارج نطاق أعضائه، وتكوين تحالفات مع دول الإقليم ذات العمق الجغرافي والثقل البشري، وفق مبدأ الاعتماد المتبادل الذي يقود إلى التكامل الإقليمي.