على مدى السنوات الثماني الماضية، بنى الحزب الجمهوري خطابه السياسي على ما يسميه الأميركيون "المدرسة المحافظة ماليا"، أي إن الحزب الجمهوري يعارض سياسة الإنفاق الفيدرالية في معظم أشكاله، ما عدا في شؤون الدفاع العسكري.
حتى إسرائيل التي يجمع على صداقتها
الجمهوريون، تعرضت لانتقادات من أعضاء في مجلس الشيوخ ومرشحين سابقين للرئاسة، مثل السيناتور راند بول الذي طالب بوقف المساعدة الأميركية المالية السنوية لإسرائيل، والتي تبلغ 38 بليون دولار على مدى العقد المقبل.
والتقشف في الإنفاق الحكومي هو السبب الأبرز خلف ادعاء الجمهوريين معارضتهم لقانون الرعاية الصحية، الذي عمل على إقراره الرئيس باراك أوباما، والذي ساهم في تقديم التغطية الصحية لأكثر من 20 مليون أميركي كانوا يعيشون من دونها.
وهو الذي يدفع الجمهوريين إلى المطالبة المستمرة بتخصيص صناديق الرعاية الاجتماعية، مثل صناديق التقاعد والرعاية الطبية للمتقاعدين والفقراء.
والمغالاة في التقشف لدى الجمهوريين هي التي دفعتهم في الكونغرس إلى وقف تمويل الحكومة الفيدرالية، ما أدى الى إغلاق الوكالات الحكومية غير الأساسية لمدة أسبوعين، في خريف عام 2013.
لكن يبدو أن مغالاة الجمهوريين في التقشف الحكومي كانت من باب المناكفة السياسية، إذ لم يكد يمضي أسبوع على بدء الكونغرس الجديد، الذي تسيطر غالبية جمهورية على غرفتيه فيما سيحكم البيت الأبيض جمهوري آخر هو دونالد ترامب، حتى وافق مجلس الشيوخ على مشروع قانون يسمح برفع العجز السنوي للموازنة الفيديرالية، والتي أمضى الرئيس باراك أوباما ولايتيه في محاولات حثيثة لخفضه.
ووفقا لصحيفة "الحياة"، كان العجز السنوي الأميركي بلغ 167 مليار دولار فقط عام 2007، قبل أن يبدأ رحلة ارتفاع دفعته إلى 1.4 تريليون دولار في 2009، بسبب الركود الكبير الذي أصاب البلد في خريف 2008.
وحافظ العجز على مستوى 1.3 تريليون دولار عامي 2010 و2011، وبقي فوق تريليون دولار في 2012، قبل أن ينخفض للمرة الأولى إلى ما دون التريليون عام 2013، ويستمر في الانخفاض ليبلغ نحو 500 مليار دولار، وفقا لتقديرات الحكومة الفيدرالية للعام الحالي.
لكن بدلا من أن يسعى الجمهوريون إلى مزيد من خفض العجز، فتحوا الباب لرفعه، فوردت في مشروع قانون مجلس الشيوخ موافقته على بلوغ العجز 580 مليارا للعام الحالي، و728 مليارا في عام الانتخابات الرئاسية المقررة في 2020، ثم يواصل ارتفاعه ليصل إلى تريليون دولار في العام 2026.
ومع ارتفاع العجز السنوي، ترتفع المديونية العامة من 20 تريليون دولار حاليا، إلى 29 تريليونا، أو ما يقارب 150 في المئة من الناتج المحلي، عام 2026.
هذه الأرقام قد تبدو خيالية بالنسبة إلى المحافظين ماليا، لكن يبدو أن الجمهوريين انقلبوا فجأة على أنفسهم وعقائدهم، وقرروا فتح خزائن الحكومة الفيديرالية أثناء سيطرتهم على الكونغرس بغرفتيه وعلى الرئاسة.
السبب الأول خلف انقلاب الجمهوريين على مبادئهم يعود بخاصة إلى محاولتهم إطلاق المحرك الاقتصادي، ودفع الناتج المحلي إلى نسب نمو عالية، يأمل ترامب بأن تصل إلى أربعة في المئة، ليقارنوا هذه النسب بمعدل النمو الاقتصادي في زمن حكم الرئيس الديموقراطي باراك أوباما، والذي بلغ 2 في المئة.
ولأنهم حققوا نسب نمو مضاعفة، يأمل الجمهوريون بأن يبقيهم الأميركيون في الحكم، من طريق إعادة انتخابهم مرارا، على الأقل على مدى العقد المقبل.
لكن كيف ستكون ردة فعل القاعدة الشعبية للحزب الجمهوري؟ وهل يقبل الجمهوريون «المحافظون ماليا» والمطالبون بخفض العجز وسد الدَين، بالانقلاب الذي تنفذه القيادة الجمهورية، خصوصا أن الديموقراطيين انقلبوا أنفسهم وأصبحوا يتمسكون بخفض العجز؟
أما سبب انقلاب الديموقراطيين من مؤيدي إنفاق إلى مؤيدي تقشف، فيرتبط برؤيتهم الاقتصادية المبنية على نظريات الاقتصادي الراحل جون ماينارد كينز، الذي يدعو الحكومات إلى الإنفاق في زمن الركود، والتقشف ورفع الضريبة في زمن البحبوحة.
ويعتبر الديمقراطيون أن الاقتصاد الأميركي أصبح في وضع جيد، وأن البطالة قاربت أدنى مستوياتها التاريخية بمعدل 4.8 في المئة، وأن مجلس الاحتياط الفيدرالي يبحث في إمكان رفع الفائدة خوفا من التضخم المتوقع.
وبرغم أن بعض الاقتصاديين يشككّ في عافية سوق الوظائف الأميركية، تشير غالبية الخبراء الأميركيين، خصوصا من الديمقراطيين، إلى ارتفاع المداخيل الأميركية كمؤشر إلى أن سوق العمل متعافية.
كذلك، يستشهد من يعتقدون أن سوق العمل في الولايات المتحدة قوية، بالإشارة إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات الاستقالات التي يقدمها العمال، وهي ظاهرة تشي بثقة الأميركيين بسوق العمل، واعتقادهم بأنهم سيجدون فرص عمل أفضل من التي يعملون فيها، حتى لو استقالوا قبل إيجاد وظيفة بديلة.
ولا يعارض الديمقراطيون ارتفاع العجز والدَين العام في شكل مطلق، لكنهم يأخذون على الجمهوريين قيام هؤلاء بعرقلة الاستدانة لإنقاذ الاقتصاد أثناء الركود، ما فوت فرصة على الأميركيين لدفع اقتصادهم في شكل أفضل مما قاموا به عامي 2008 و2009.
النقطة الأساسية في موضوع تأييد الجمهوريين المستجد لارتفاع العجز السنوي، ليست نفاق الجمهوريين، كما كتب الاقتصادي الفائز بجائزة "نوبل" بول كروغمان في مقالته الأسبوعية في صحيفة "نيويورك تايمز"، بل في أن نفاق الجمهوريين جعلنا أفقر، إذ إنهم صرخوا ضد شرور الدَين عندما كان يمكن العجز الأكبر أن يقدم أشياء كثيرة، وهم في طريقهم إلى تفجير العجز في وقت ما، ويكون من شأن ذلك أن يؤدي إلى الكثير من الضرر.