أنهى اليسارُ الفرنسي الجولةَ الثانية من انتخاباته الأولية (29 يناير/ كانون الثاني 2017) بترجيح وزير التعليم السابق “بونوا هامون” Benoit Hamon على منافسه “مانويل فالس” Manuel Walls، الذي شغل إلى وقت قريب منصف الوزير الأول في حكومة “فرانسوا هولاند". وقد شهد الاقتراع إقبالا أكثر من الجولة الأولى، كانت نتيجته 65،58% لـ"بونوا هامون"، نظير 3،41 لمنافسه "مانويل فالس".
يتطلعُ الفرنسيون إلى ما ستؤول إليه الانتخابات الرئاسية الربيعَ المقبل، ولمن ستنتقل مؤسس الرئاسة، ومن جانب معسكر اليمين ووسط اليمين، يُواجه “فرانسوا فيون” هجمةَ اتهامات بدأت بالتشهير بزوجته، واتهامها تسلّم أموال بلغت نصف مليون يورو نظيرَ أعمال في البرلمان لم تقم بها، حين كانت مساعدة لزوجها، أو حينما أصبحت تشتغل إلى جانب نظيره في العمل نفسه. ويرى كثير من المحللين أن تطورات من هذا القبيل، وفي هذه اللحظة السياسية بالذات، من شأنها إضعاف شعبية مرشح اليمين، وإعاقة تقدمه على طريق الوصول إلى قصر الإليزيه، وإن أبدى “فيون” قدرا من المواجهة، واعتبر ما يحصل له سلوكا سياسيا يدخل ضمن إستراتيجية النيلِ منه، والسعي إلى نزع الصدقية عنه، كما يحصل دائما في السياقات الانتخابية.
ربما لم يكن متوقعا بما يكفي من اليقين فوز “بونوا هامون” على نظيره “فالس” وقيادة مشروع اليسار عموما نحو انتخابات الربيع المقبل، لأسباب خاصة بمساره السياسي وتجربته النضالية وخبرته العملية، ولاعتبارات ذات علاقة بوضع الاشتراكيين واليسار عموما. فصلته بالحزب الاشتراكي ومنظومة اليسار متواضعة مقارنة مع أقرانه من حيث مدتها الزمنية وسنواتها المتراكمة، وإن كان أكثر الشباب جرأة ونقدا لعائلته السياسية، وأبلغ إصرارا على إدخال التغيير على الفكر والممارسة الاشتراكيتين. لنتذكر أنه استقال من منصبه كوزير للتربية الوطنية في حكومة “هولاند"، واعترض على أكثر المشاريع الإصلاحية، لاسيما ذات الطابع الاجتماعي، داعيا بقوة إلى عدم تحمل مسؤولية “حكومة غير شعبية وفاشلة” على عهد الرئيس “هولاند"، ومناديا بالاعتراض على قانون “إسقاط الجنسية"، ومشروع “قانون العمل"، الذي يُراد منه، بحسب تقديره، عدم خدمة مصالح العمال، والطبقة الشغيلة عموما. ولنتذكر أيضا، أن “بونوا هامون”، الذي لم يتجاوز عمره الخمسين سنة (1967 ـ 2017)، دخل معترك التنافس على مؤسسة الرئاسة في سياق لم يعد للاشتراكيين القادة الكبار، كما كان عليه الأمر في السابق، وبدأ خطابُهم يعرف تراجعا ونُكوصا إلى الوراء، والأكثر انكمش رصيدكم الشعبي وضعفت مكانتهم داخل نسيج المجتمع الفرنسي. لذلك، يُطرح أكثر من استفهام عن مدى قُدرة الاشتراكيين من خلال مرشحهم “بونوا هامون” على الفوز في الانتخاب الرئاسي المقبل.
لا تبدو الصورة واضحة بما يكفي للجزم بفوز الاشتراكيين واليسار عموما في الاستحقاق الرئاسي المقبل، لاعتبارات أهمها، تراجع منسوب الرضا على حصيلة ولاية “فرانسوا هولاند” (2012 ـ 2017)، وانقسام العائلة الاشتراكية واليسارية على نفسها، وبالمقابل تزايد شعبية اليمين المتطرف، بفعل تأثير النزعات”الشعبوية” populisme في عموم أوروبا والعالم، ناهيك عن وجود قدر من التماسك في صفوف اليمين ووسط اليمين مقارنة مع الاشتراكيين واليساريين. لهذه الأسباب وغيرها، قد تكون حظوظ “بونوا هامون” محدودة في الاقتراع الرئاسي المقبل، وربما قد لا يستطيع البقاء حتى إلى الدور الثاني، فبالأحرى الفوز في انتخاب الربيع المقبل.
يمكن، بالمقابل، للاشتراكيين واليساريين بمختلف أطيافهم تكثيف عملهم، وتعزيز تكاتفهم من أجل تيسير شروط بناء التوازن في تناظرهم مع اليمين ووسط اليمين، القوة المرشحة أكثر من غيرها للظفر بالولاية الرئاسية المقبلة. الشاهد على هذا الافتراض أن “اليمين المتطرف"، وعلى الرغم من تصاعده المنتظم والملحوظ، ما زال غير مقبول من قبل المزاج العام الفرنسي، بل يعتبره الكثير من الفرنسيين خطّا أحمر، وإن اقتضى الأمر خلق تحالف وطني بين اليمين واليسار من أجل مناهضته، يمكن أن يحصل ذلك، وقد حصل في انتخابات رئاسية سابقة. لذلك، ستبقى في حلبة التنافس على الرئاسيات المقبلة قوتان اثنتان، لا ثالث لهما: اليمين ووسط اليمين، بقيادة “فرانسوا فيون"، والعائلة الاشتراكية واليسارية، من خلال “بونوا هامون"، وهو ما يعني أن على المكونات الاشتراكية واليسارية رص صفوفها، وجمع قوتها وإمكاناتها لدعم المرشح الفائز في الانتخابات التمهيدية، من أجل خلق شروط التناظر والتنافس مع اليمين ووسطه، وربما الانتصار عليه، وإلا سيُضيف الاشتراكيون إلى هزيمة ولاية “هولاند” هزيمة أخرى، ربما ستُرجعهم إلى الوراء لسنوات، كما حصل للحزب الشيوعي من قبل. وبالموازاة، سيكون مطلوبا من “بونوا هامون” تطوير تواصله مع الناخبين من داخل أنصاره وخارجهم لتسويق رؤيته لقيادة فرنسا في حال فوزه، لاسيما من زاوية الإصلاحات الاجتماعية (قانون العمل أو الشغل)، والاهتمام بالشرائح الأكثر تضررا من آثار العولمة وضعف العدالة الاجتماعية، والدفاع عن حقوق الأقليات، والفئات غير المندمجة، بما يكفي، في النسيج العام للمجتمع الفرنسي، لاسيما الملفات ذات العلاقة باللاجئين، وواقع الإسلام والمسلمين في فرنسا، ومناهضة سياسات إسقاط الجنسية، بالشكل الذي طرحت به، ومورست خلاله في عهد الرئيس هولاند.
إن التحدي كبير وكبير جدا أمام مرشح اليسار في فرنسا، لكن في مكن الاشتراكيين واليسار تحويل العُسر إلى يُسر في معركة الرئاسيات الربيع المقبل.