حلّت قبل ثلاثة أيام الذكرى الثامنة والعشرون لإنشاء " اتحاد المغرب العربي" (17 فبراير 1989 ـ 17 فبراير 2017)، وهي مناسبة يُفترض أن تكون سانحة للإشادة بالمكاسب والتطلع إلى تعظيم فرص العمل المشترك، وتقوية الإمكانيات المتاحة أمام الدول الأعضاء في هذا التنظيم الإقليمي، لخلق فضاء جماعي حقيقي، يُناظر أقرانه من التجمعات الجهوية الناجحة في أكثر من بقعة في العالم.
غير أنه لا شيء من هذا حصل، فقد مرت الذكرى و ليس في جعبة البلاد المغاربية ما يمكن الاعتزاز به، أو الافتخار بنجاحاته أمام العالم.. فالاستعمار الفرنسي الذي خرج من مُستعمراته الثلاث السابقة (الجزائر، المغرب ، تونس)، وعلاقاتها البينية تتراوح ما بين 5،1 % و 2%، هي اليوم، و بعد مرور أكثر من نصف قرن على استقلالها، لم تتجاوز مبادلاتها المشتركة عَتبة 3%، وهي نسبة ذات دلالة عميقة عن واقع المشروع المغاربي، الذي عجزت نُخبُه القائدة عن تحويله إلى ضرورة استراتيجية منذ عقود، كما أخفقت مجتمعاتُه في وعي أهميته، والنضال من أجل فرضه خيارا لا رجعة فيه. لذلك، فالفشل مزدوج، ومسؤوليته مشتركة بين الدول والمجتمعات، والإعاقة ليست ذات مصدر واحد ووحيد، بل هي متعددة الأسباب و متنوعة المصادر.
هل بالإمكان تدارك الوقت الضائع، وإعادة إحياء المشروع والسير به نحو البناء الواقعي والممكن؟، أم أن الفكرة المغاربية تُعاني من موت محقق، وأن السعي إلى إحيائها لا يعدو أن يكون مجرد محاولة ليث الروح في جسم ميت لا أمل يُرجى من عودته إلى الحياة؟.
لا بد من التمييز في الإجابة عن سؤال التدارك وإعادة الإحياء بين "المغرب العربي"، كفكرة ومشروع، وبين " المغرب العربي" كحقيقة تُبنى في الأرض وتجسد في إرادات وسياسات وإنجازات. فالفكرة المغاربية ما زالت حية، وستستمر حية في وجدان المغاربيين وتطلعاتهم، لأنها من قبيل ما له صلة بالإحساس المشترك والشعور الجمعي، وكل ما له علاقة بالوجدان والمتخيل الجماعيين موسوم بالديمومة والاستمرار. أما المشروع المغاربي، كواقع يلمسُه الناس، ويُحسُّون بوجوده، ويتقاسَمون جماعيا ثمارَه وإنجازاتِه، فهو مما يمكن نعته اليوم ب " الطوبى" Utopie، أو " المتخيل" Imaginaire ، الذي نُدركه باللاّوعي، ونعيشُه وتعايشُه بالرغبة وبما ينبغي أن يكون، وليس بما هو كائن.. وشتان ما بين هو كائن وما ينبغي أن يكون.
ثمة على الأقل مصدران يقفان أمام فرص النهوض بالفكرة المغاربية وتحويلها إلى بناء مشترك بين الدول الأعضاء. تعود الإعاقة الأولى إلى سلسلة الإخفاقات التي منيت بها الفكرة المغاربية منذ الاستقلالات الأولى لبلدانها، وحتى الإعلان عن تأسيس " اتحاد المغرب العربي" عام 1989. في حين تخص الإعاقة الثانية الوضعَ الجديد الذي آلت إليه بلدانُ المنطقة بعد انطلاق " الحراك العربي"، أو ما سمي " الربيع العربي" مع نهاية 2010، وما زالت دينامياتُه مفتوحة حتى اليوم.
لم تُراكم الدول المغاربية، مع الأسف، رصيدا إيجابيا في مضمار العمل المشترك، قياسا لما حولها من التجمعات الإقليمية، السابقة عنها وهي قليلة، واللاحقة لها وهي كثيرة، حيث لم تتجاوز في أحسن الأحوال إنشاء المؤسسات المشتركة، والإعلان عن المشاريع والخطط الجماعية، وعقد سلسلة من الاجتماعات على صعيد مؤسسات القمة واللجان الفرعية والوظيفية، وإبرام مجموعة من الاتفاقيات ذات العلاقة بكافة مناحي البناء المشترك.
وكي نكون دقيقين نُشير إلى أن سواء حين تبني المدخل الاقتصادي مع إنشاء " مؤتمر وزراء الاقتصاد" ما بين 1964 و1975 ، لم تتجاوز الحصيلة العامة للإنجازات وضعَ الهياكل والمؤسسات وإعداد الدراسات، وعقد الاجتماعات، والأمر نفسه تحقق مع التوقيع على اتفاقية " اتحاد المغرب العربي" سنة 1989، التي توقف العمل بها عمليا صيف 1994، أي بعد خمس سنوات من الإعلان عن ميلادها. لذلك، لم تُراكم المنطقة من الممارسات المثلى ما تعزز رصيدها في مجال العمل المشترك، إسوة بنظيراتها من الاتحادات أو المنظمات الجهوية، لنقارن مثلا بـ"الجماعة الاقتصادية الأوروبية" (1958)، التي تحولت لاحقا إلى اتحاد أوروبي، أو لنقم بقياس مع التجمعات الناشئة في آسيا والمحيط الهادئ، أو في دول شرق إفريقيا أو غربها، ونستنتج ما يمكن استنتاجه من هذه المقارنات.
ومن جهة المصدر الثاني للإعاقة، لابد من التنبه إلى التحولات التي طرأت على المنطقة المغاربية فور انطلاق "الحراك العربي" وعلى مدار سنوات امتداده. فقد طالت البلدان الخمسة تحولات متفاوتة الحجم كانت لها الآثار العميقة، أبرزها سقوط النظام في ليبيا ودخول هذا البلد دوامة البحث عن الاستقرار وإعادة بناء مؤسسات الدولة وشرعية السلطة، وحتى الآن لا يبدو أن هناك أفقا واضحا للتوافق على عملية إعادة البناء، بل الخوف كل الخوف أن يستمر الاقتتال في هذا البلد وتتحول ليبيا إلى دولة فاشلة، إن لم تكن قد تحولت فعلا. وفي جوارها عاشت تونس فصول "ثورة"، أسقطت رأس النظام، ودخلت مرحلة إعادة بناء الشرعية ومؤسساتها الدستورية والسياسية التي خلفتها تجربة النظام السابق .
أما الجزائر، فتُجمع مجمل التقارير المهتمة بهذا البلد أنها تعيش وضعا داخليا دقيقا، وأن ما يبدو على السطح استقرارا، يضمر في قاعه توترات بالغة الخطورة . أما موريتانيا، البلد الموسوم بالاختلالات الاجتماعية والإثنية منذ نشوئه، فيراوح مكانه بين الإصرار على مقاومة الإصلاح، ومواجهة مطالب الإصلاح المتنامية باستمرار. يبقى المغرب، الذي أنجز الكثير من إصلاحاته منذ العشرية الأخيرة من القرن العشرين، وبقوة أكثر مع بداية الألفية الجديدة.. فهذا الوضع العام الموسوم بالتفاوتات من شأنه أن يحول دون إعادة أحياء المشروع، أو الأقل يعطل انطلاقه.