معرّض كغيري للتورط في كل ما يسقط في صندوق رسائل التواصل الاجتماعي، حتى لو لم تبحث عنها فستأتيك «على رغم أنفك»، حتى لو رفضت كل دعوات الإضافة، أو تجنبت تحميل كل ما يصلك من الملفات، فستتسرب إليك «عنوة» من قريب أو صديق عزيز، وكلها تقريبا متشابهة، لا تختلف إلا باسم الناقل، وأكاد أجزم بأن الناس بات لديهم عادة وقابلية مفرطة لإرسال كل ما يصل إليهم مباشرة وتلقائيا، وقبل أن يتبينوا محتواها، إلى كل من تضمهم قائمة الأصدقاء.
يعتب علي البعض لأنني أوقف استقبال رسائلهم عمدا، لأنها بصراحة مؤذية، ليس لأنها سيئة أو مشينة أو لا أخلاقية، بل لأنها تسلط الضوء على قضايا جارحة أحاول أن أتلافاها كي لا أتورط فيها وأنثرها بدوري في زاويتي هذه، بعضها يأتي صاعقا لا تحتمله العقول السليمة ولا الأذواق العالية، كآخر رسالة اجتاحتني من أكثر من مصدر وفي ساعة واحدة، ألحقت بها رسائل مشابهة، وهي الدافع الحقيقي للتورط في كتابة هذه المقالة، لأنني أعرف سلفا أنني سأواجه بـ«عاصفة» من التفسيق والتكذيب، و«سأوصم» بكثير من الألقاب البذيئة والتهم المتعجلة، إلا أن مسؤولية الكلمة تدفعني إلى قول الصدق.
ثلاث رسائل «واتسابية»؛ الأولى لشيخ كبير في مقامه عند عامة الناس، واعظ مفوه شاعر، أصبح يستحلي الشعبي أكثر من العربي، يتصدر طاولة طعام فاخرة لا يرى أولها من آخرها فرش عليها مختلف أنواع المأكولات، ولم ير في المشهد سواه مع مضيفه وعدد قليل من الضيوف. الرسالة لثانية، الشيخ ذاته يدعو المسلمين للتبرع لمجمّع حلقات القرآن في الطائف، الذي أصبح يعاني من عوز مادي، لم يسقط في روع الشيخ أن تكاليف هذه المأدبة التي أعدت له بعناية وكرم حاتمي - كما يصفها في المشهد - كافية تماما لتغطية نفقات الحلقة، ألحقت هذه الرسالة برسالة أخرى لرجل بين أبنائه القلة، تدور حولهم طاولة طعام متحركة تشمل صنوف المأكولات الشعبية، كي يتناولوا منها ما يشاؤون، وكأن المشهد أخذ للتباهي بهذه النعمة العظيمة التي حباهم الله بها، ألحق بالمشهد مشهد آخر لفقراء مساكين حفهم الفقر وأبلى أجسادهم الجوع يحملون بين أيديهم آنية صدئة انتظارا لمعونات قادمة.
هذه المشاهد المحزنة - لا بل المخزية - استثارت هذا السؤال، هل نحن في حاجة إلى الاكتفاء بتحفيظ أبنائنا القرآن الكريم فقط، أم أننا مطالبون بتعليم أبنائنا الأخلاق الحميدة وإكسابهم السلوك الرفيع، الذي يشي حقيقة بأننا «أمة أخلاق»؟ لقد أصبحنا أمة قول لا أمة فعل، فشيخ يدعونا على كل المنابر لنزهد في الدنيا، وهو يسكن القصور ويركب الفاره من العربات، وآخر يدعونا ويحذرنا ليل نهار من الاختلاط، ونراه يختلط مع الإصرار والترصد، وشيخ لا نراه إلا محذرا من الابتعاث، ثم تتصيد له عدسات الكاميرات صورا وهو يقف بين خليط ممزوج بالوجوه السافرة والأجساد العارية، محتفيا ومفاخرا بتخرج ابنه من الجامعة الأميركية، أما الذي يدعو إلى الثورة وينظر إليها ويحفز على الجهاد فلا يرى نفسه داخل هذا الإطار ولا يسمح لأبنائه بتبني نظرياته! وآخرون غيرهم شاغلونا طويلا وحقنوا أسماعنا بضجيج الكلمات المفخخة، ثم لا نراهم إلا «ينكصون على أعقابهم» ضاربين بكل المثل والقيم الحميدة عرض الحائط.
أليس هو هذا الدين الذي حفظتموه من القرآن الكريم؟ ألستم من المؤمنين الذين نهاهم القرآن الكريم بأن «يقولوا مالا يفعلون»؟ ماذا أصابكم؟ هل نحن نحفّظ أبناءنا القرآن كي يعرفوا بأنهم من حفظة كتاب الله، وتوزع عليهم الجوائز وينالوا المدائح والأوسمة في المجالس العامة والخاصة، بينما أخلاقهم لا تدل عليهم؟ لقد أمسى رفاهية أكثر من كونه تدبرا وعملا.
يا سادة يا كرام، أمام هذا الإغراق في حفظ القران الكريم والتوسع في مدارسه وحلقاته فقدنا بوصلتنا الدينية الحقيقية، نحن في مسيس الحاجة إلى استبدالها بمدارس وحلقات تعلمنا الأخلاق الحميدة والسلوك الحسن والمنطق المؤدب الرصين.
اسمحوا لي أن أقول لكم إن ديننا أمسى جزءا من العادات والتقاليد والممارسات التي لا تتجاوز أعتاب المساجد بحسب تصرفات البعض ماذا نريد من جيل يرى «وعّاظه» يضربون بقيمهم عرض الحائط؟ ولا تراهم إلا صارخين ومولولين ملء حناجرهم بمواعظ لا تتجاوز شراك نعالهم - أعزكم الله - لن يكونوا إلا صورة ممسوخة منهم، لقد استقرت قناعتي على أن كل ذي صوت أجش يتحدث عن النار والقيامة هو أفاق يسعى لتحطيم «نفسيات» الناس لتسهل السيطرة عليهم، ويجرد العقول من عملها الحقيقي، حتى استسلمنا جميعا لإرادة مستبدة تستطيع أن تلقي عليك ما تشاء من الأوصاف وتلحقك بأي فرقة أو جماعة لمجرد اختلافك معهم أو كشف أخلاقهم، وتستثير ضدك الأتباع و«الحواريين»، فقط لأنهم ألبسوا على الناس بين ما هو بشري وما هو ديني.
فليس من الدين إلزام الصغار بحفظ القرآن فقط، إنما من الدين إلزامهم بالأخلاق والقيم العالية الرفيعة، ولكن كيف يحدث هذا وكثير من القيمين على أبوابه، التي صنعوها لأنفسهم بلا أخلاق إسلامية حقيقية تدلل عليهم! إذ إن منهم السارق والكاذب والأفاق الملفق، إلا من رحم ربي ولزم العلم الشرعي الحقيقي وضرب المثل بروعة أخلاقه وسلوكه، فلا هو صاحب صوت ولجج، ولا هو صاحب دعاية وهوى. اليوم ونحن نرى قيم التحول الاقتصادي تتغلغل في مفاصل حياتنا، نحتاج معها إلى قوانين أخلاقية تحمينا من أنفسنا. ولعل الله سبحانه أن ينزع بالقانون ما لا ينزع بالقرآن.