واجهت الأمم المتحدة موقفا عصيبا نال من سمعتها عقب رضوخ أمينها العام، أنطونيو غوتيريش، لضغوط أمريكية- إسرائيلية منسقة دفعته لإصدار أوامره بسحب تقرير «الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الأبارتايد» الذي أصدرته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «إسكوا».
ولأن تصرف الأمين العام، والذي لا يستند إلى أي مبرر أخلاقي أو مهني، وضع السيدة ريما خلف، الأمين التنفيذي للإسكوا، في موقف صعب فرض عليها الاختيار بين مصالحها الشخصية وبين القيم والمبادئ التي تؤمن بها، فقد آثرت الاستقالة، وهو موقف نال إعجاب وتقدير الكثيرين.
غير أن تركيز الأضواء الإعلامية على هذا البعد وحده، على أهميته، جاء على حساب أبعاد أخرى لا تقل أهمية.
لإدراك دلالة هذه الأبعاد، يتعين ربط ما شهدته ساحة الإسكوا أخيرا، بما شهدته ساحة الجمعية العامة في منتصف سبعينات القرن الماضي، وبما شهدته ساحة محكمة العدل الدولية في منتصف العقد الأول من القرن الحالي.
فهذه المشاهد الثلاثة تشكل حلقات مترابطة عضويا في مسلسل الإدارة الأممية للصراع العربي- الإسرائيلي، شاركت في صنعه ثلاثة من أهم الأجهزة الرئيسة للأمم المتحدة هي: الجمعية العامة، ومحكمة العدل الدولية، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي (والذي تعد الإسكوا إحدى لجانه الوظيفية). ففي عام 1975 أصدرت الجمعية العامة قرارا «يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية» (القرار 3379)، وفي عام 2004 أصدرت محكمة العدل الدولية فتوى قانونية تؤكد عدم شرعية «الجدار العازل»، ومنذ أيام أصدرت الإسكوا تقريرا يدين النظام الإسرائيلي باعتباره نظاما يقوم على الفصل العنصري أو «الأبارتايد»، والذي يعد من منظور القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية.
يجمع بين هذه «الوثائق» الثلاث قاسم مشترك أعظم، هو «عنصرية المشروع الصهيوني»، بكل ما يمثله: أيديولوجيا وسياسيا وبنيويا. ولأنها وثائق صدرت في سياقات وموازين قوى إقليمية ودولية مختلفة، فقد تباينت الأساليب والأدوات المستخدمة من جانب إسرائيل للتعامل معها وإبطال مفعولها، على رغم الإدراك التام لخطورتها ليس فقط على مستقبل إسرائيل ولكن على وجودها ذاته.
فقرار الجمعية العامة، والذي ساوى بين الصهيونية والعنصرية، صدر بعد فترة وجيزة من حرب 73 التي مكنت الدول العربية ليس فقط من تحقيق إنجاز عسكري ملموس ولكن أيضا من استخدام النفط كسلاح في المعركة وكأداة لعزل وحصار إسرائيل ديبلوماسيا، أي في مرحلة مالت فيها موازين القوى لغير مصلحة إسرائيل. ومن الطبيعي أن يشكل قرار يرى في الصهيونية والعنصرية وجهين لعملة واحدة، صدمة كبرى لإسرائيل خشيت معها أن يساهم في فتح طريق يفضي إلى المصير نفسه الذي انتهت إليه جنوب إفريقيا، وهو ما يفسر إصرار إسرائيل على المطالبة بإلغائه باعتباره «عارا على الإنسانية».
غير أن إسرائيل لم تنجح في مسعاها هذا، والذي حشدت في سبيله كل طاقاتها، إلا بعد أن تمكنت من تصفية نتائج حرب أكتوبر، وبمساعدة من بعض القادة العرب. ففي عام 1977 أقدم السادات على زيارة القدس ثم قام بإبرام معاهدة سلام منفصلة مع إسرائيل عام 1979، فاطمأنت إسرائيل إلى استحالة اندلاع حرب عربية شاملة في مواجهتها وشعرت بأن يدها أصبحت طليقة في العدوان على أي دولة عربية ترفض إبرام اتفاقية مماثلة معها.
أما فتوى محكمة العدل الدولية ضد «الجدار العازل»، أو «جدار الفصل العنصري» كما أصبح يطلق عليه لاحقا، فصدرت في سياق مختلف بدت فيه موازين القوى مختلة لمصلحة إسرائيل التي تبنت موقفا شديد التعنت وبدت رافضة من الناحية الفعلية لحل الدولتين الذي قبلته الدول العربية في قمة بيروت عام 2002. ولأن المقاومة اللبنانية كانت قد حققت عام 2000 انتصارا مهما مكنها من تحرير جنوب لبنان من دون قيد أو شرط، الأمر الذي شد من أزر المقاومة الفلسطينية التي راحت تنشط من جديد، وردت إسرائيل بمحاصرة عرفات في المقاطعة والشروع في بناء «جدار عازل»، فقد أدركت معظم الدول العربية أنها وصلت إلى مأزق ولم يعد أمامها من خيار آخر سوى طلب فتوى من المحكمة الدولية حول مدى شرعية بناء الجدار.
وعلى رغم إدراك إسرائيل التام لعدم إلزامية فتاوى محكمة العدل الدولية، فإنها كانت تدرك في الوقت نفسه أهميتها القصوى على الصعيدين الأخلاقي والقانوني، وهو ما يفسر إصرارها على إجهاض هذا المسعى. وانتهى الأمر بهزيمة مدوية لها. فقد صدرت الفتوى بغالبية أربعة عشر صوتا ومعارضة صوت واحد فقط، هو صوت القاضي الأمريكي توماس بورغنتال، وجاءت تاريخية بكل معنى الكلمة. فلم تكن الفتوى مجرد تفسير للموقف القانون الدولي من بناء الجدار وإنما أصلت حيثياتها للحقوق الوطنية الفلسطينية التي استندت إليها للتأكيد على عدم شرعية بناء الجدار، ولمطالبة إسرائيل بهدم ما بني منه، ولتعويض الفلسطينيين عن الأضرار التي لحقت بهم بسببه.
بقي أن نشير إلى الوثيقة الثالثة، والتي أخذت هذه المرة شكل «تقرير» أصدرته «الإسكوا» تحت عنوان: «الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الأبارتايد». وتنبع أهمية هذا التقرير، والذي صدر باللغة الإنكليزية في 74 صفحة، من طابعه العلمي الذي يعكس المستوى الأكاديمي الرفيع لكاتبيه ريتشارد فولك وفرجينيا تيلي.
فريتشارد فولك يعد من أهم أساتذة القانون الدولي الإنساني على مستوى العالم، وسبق له أن شغل مناصب أكاديمية مرموقة في عدد من أهم الجامعات الأمريكية، من بينها هارفارد وبرنستون وكاليفورنيا (سانتا بربرا)، وصدر له أكثر من خمسين كتابا، من تأليفه أو تحريره، ووقع عليه اختيار الأمم المتحدة منذ سنوات ليكون مقررا للفريق المكلف ببحث أوضاع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد عام 1967.
أما فرجينيا تيلي، والتي تعمل حاليا كأستاذة للعلوم السياسية في جامعة جنوب إلينوي، فتعد من أهم الخبراء المتخصصين في دراسة أوضاع ونظم الأبارتايد في العالم ومن الملمين في الوقت نفسه بدقائق الصراع العربي- الإسرائيلي، ولها كتاب شهير صدر عام 2005 عن «حل الدولة الواحدة».
وفي تقديري أن أهم ما تضمنه هذا التقرير تأكيده أن السياسات العنصرية التي تمارسها إسرائيل لا تقتصر على الفلسطينيين المقيمين في الأرض المحتلة بعد 1967، وإنما تمس جميع الفلسطينيين أينما وجدوا، بمن فيهم عرب 48 وفلسطينيو الشتات، أي أنها سياسات تمارس ضد الشعب الفلسطيني بكل مكوناته، وباعتباره كذلك، وقيامه بدعم النتائج التي توصل إليها بأسانيد علمية مستمدة من الوثائق والقوانين الإسرائيلية نفسها.
على رغم تقديري وإعجابي الشديد بالموقف النزيه والشجاع الذي اتخذته السيدة ريما خلف، حين آثرت تقديم استقالتها على تغطية الموقف المخزي للأمين العام، إلا أنني أعتقد أن مؤلفي التقرير يستحقان تقديرا أعظم، خصوصا لأنهما مواطنان أمريكيان، وأظن أنهما لن يسلما أبدا من التجريح والنقد ومن طعنات إسرائيلية حادة لا أشك أنها ستوجه لهما بقسوة في المستقبل.
وأود أن أنوه هنا إلى أن ولوج مثقفين وخبراء دوليين، من أمثال ريتشارد فولك وفرجينيا تيلي، ساحة النضال ضد الصهيونية، بوصفها شكلا من أشكال العنصرية، يؤذن بعصر جديد يمهد لتسوية تقوم على بناء دولة موحدة يتعايش فيها العرب، مسلمين ومسيحيين، إلى جانب اليهود غير الصهيونيين. ولا أعتقد أنني أبالغ إن قلت هذا التقرير سيساهم في إعادة إحياء حل الدولة الواحدة بعد أن نجح نتانياهو في دفن حل الدولتين.