فتحت وثيقة
حماس السياسية باب الجدل واسعا بين مؤيديها ومنتقديها، بين من يرى أن الوثيقة تعكس حالة التطور والتجديد والمرونة السياسية للحركة مع تمسكها بالثوابت، وبين من يرى فتحها لـ"إمكانية التنازل عن سقف الحل والتحرير التي كانت مغلقة من قبل".
ووجهت للوثيقة انتقادات شديدة، كان من أبرزها انتقاد ما جاء في البند (20) منها، الذي سيجبر حماس على سلوك الطريق ذاته الذي سلكته حركة فتح من قبل، بالتالي تجريب المجرب دول طائل، وفقا لمنتقدي الوثيقة.
وأرجع أولئك المنتقدون حكمهم إلى أن إسرائيل لن تتنازل عن الأرض التي احتلتها سنة 1967، ليقيم عليها الفلسطينيون دولة مستقلة لهم، تكون حماس جزءا منها، مع عدم اعترافها بإسرائيل، وسعيها لتحرير كامل التراب الفلسطيني، واصفين ذلك التصور بأنه يفتقر إلى أي منطق سياسي يمكن القبول به، على حد قولهم.
ووفقا لمحللين سياسيين، فإن قبول حماس بقيام دولة على حدود الرابع من حزيران عام 1967، سيخضعها بالضرورة لمنظومة العلاقات الدولية، ويقيدها بشروط ومتطلبات تلك الموافقة إقليميا ودوليا، فمن يوافق على دولة يتحول سلاحه لحماية حدود دولته تلك، ولا يعد سلاحه مخصصا للمقاومة.
وتساءل كثير من المراقبين والمحللين عن الدوافع الحقيقية وراء إعلان حماس وثيقتها السياسية في هذا الوقت، وما مدى حضور وتأثير "النصائح" الإقليمية في صياغة الوثيقة والإعلان عنها؟
من جهته، رأى أستاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك الأردنية، وليد عبد الحي، أنه مع إقراره بضرورة مراعاة الحركة للظروف القائمة والتعامل مع موازين القوى بعقل مفتوح، إلا أن
وثيقة حماس الجديدة تنطوي على استراتيجية فيها التباس عميق.
وأوضح عبد الحي لـ"
عربي21" مظاهر ذلك الالتباس بإثارة جملة من الأسئلة، منها، لو افترضنا أن إسرائيل قبلت بقيام دولة فلسطينية على حدود الـ67، فما هو المقابل الذي ستقدمه حماس؟ إذ إنه من المؤكد أن حماس لن تكون في الوضع الذي يأمر وإسرائيل ترضخ لأوامرها، فالتفاوض أخذ وعطاء.
وتابع عبد الحي: "عرفنا من الوثيقة ما الذي ستأخذه حماس من البداية، لكن الوثيقة لا تشير إلى ما الذي ستعطيه حماس لإسرائيل إذا كانت لن تتخلى عن السلاح، ولن تعترف بإسرائيل، ولن تتفاوض معها مباشرة، ولن تقبل إلا بكل فلسطين"، مستغربا: أي منطق سياسي هذا الذي سيجعل إسرائيل تقبل بالانسحاب مقابل الخروج من المفاوضات صفر اليدين؟".
وتساءل عبد الحي: "ما الداعي للإعلان عن الدولة الفلسطينية على حدود الـ67 إن كانت حماس تؤكد في وثيقتها أنها ستبقى تقاوم مقاومة مسلحة، ولن تعترف بإسرائيل، وتصر على عودة اللاجئين، وعلى تحرير كل أرض فلسطين، فما جدوى الإشارة لمنطقة مساحتها حوالي 20 في المئة من فلسطين؟".
وأضاف: "فهل يعني هذا أن التحرير سيأخذ طابعا مرحليا؟ فإذا كان الأمر كذلك (على طريقة تحرير غزة)، فإن الأمر يصبح أكثر اتساقا، ولكن هل هذا ممكن في المدى الزمني المنظور؟"، مردفا سؤالا آخر: "أليست هذه هي عبارات برنامج منظمة التحرير ذاتها المرحلية، التي انتهت إلى التنسيق الأمني ومنع
المقاومة ونشر الفساد، والاعتراف ونسيان موضوع اللاجئين؟".
وأبدى أستاذ العلوم السياسية قلقه "من غواية أطراف التحالف الإقليميين مع حماس، ومن دور البترودولار على قرارها"، متخوفا من أنه "قد يفعل فيها ما فعله في مطلقة الكفاح المسلح حركة فتح".
ودعا عبد الحي حماس "لكي تتسق سياساتها، ويطمئن القابضون على الجمر لها، عليها أن تحذر حذرا شديدا من بعض حوارييها من الحلفاء الإقليميين لأنها ستكتشف بعد حين أن يهوذا الأسخريوطي يهم بالخروج للتواصل مع جنود بيلاطس، وأن شيلوك يشحذ سكينه"، على حد قوله.
وفي السياق ذاته، قال الأكاديمي والمحلل السياسي الفلسطيني، أحمد جميل عزم، إن "هذا الموقف ليس جديدا تماما، فقد سبق لخالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس التصريح عنه بوضوح أكبر في عام 2012 في مقابلة مع سي أن أن".
وأضاف عزم لـ"
عربي21": "يومها قال مشعل، والمقابلة موجودة بالإنجليزية على موقع "سي أن أن": أنا قائد حماس، أخبر العالم، نحن مستعدون لاستخدام طريقة سلمية، حقا طريقة مسالمة، دون دماء أو سلاح، طالما حققنا مطالبنا الفلسطينية".
وحدد المطالب بـ"إنهاء الاحتلال، ودولة فلسطينية، والجدار".
وتابع الأكاديمي الفلسطيني: "بالتالي، حماس تعرض على إسرائيل السلام مقابل دولة في الضفة والقطاع، وما دام أنها قدمت هذا التنازل، فهي على الأغلب ستقدم تنازلات أخرى إذا دخلت المفاوضات".
وجوابا عن سؤال: "إذا افترضنا قبول إسرائيل بهذا العرض، ألا تتحول حماس إلى جزء من دولة، ما يعني انتقالها من حالة المقاومة إلى حالة الدولة المحكومة بسقف العلاقات الدولية، الذي يلزمها باحترام القانون الدولي، والقرارات الدولية".
وقال عزم: "بالتأكيد سيكون الأمر كذلك، وبالتالي تكرار المسار ذاته الذي سلكته فتح من قبل".
ورجح عزم أن يكون الموقف المعلن عنه في وثيقة حماس الجديدة "موجها للخارج، ولا علاقة له بالتوافق مع فتح كما جاء في الوثيقة، بالتالي قد يكون جزءا من تفاهمات مع أطراف دولية" مع حضور دور فاعل لدول إقليمية مؤثرة.
واستبعد عزم إمكانية "تصور قبول فكرة الدولة على حدود الـ67 في وثيقة إلا كجزء من عملية سياسية"، لافتا إلى أن حماس ربما تأمل في ألا تفاوض مباشرة مثل المنظمة، ولكن عبر وسطاء، ومن دون أن تضطر للاعتراف بإسرائيل"، لكنه استدرك بأن "هذا غير ممكن إلا إذا حدث تحول هائل في موازين القوى، ولا يبدو أن حماس تسعى لهذا، أو لديها خطط لتحقيق ذلك".
بدوره، قال الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني، مصطفى الصواف: "إن ما أرادت حماس قوله وإيصاله من خلال هذه الوثيقة، أن هناك تغيرات إقليمية وعالمية منذ 30 عاما، جرت عقب ميثاق حماس سنة 1988، الذي خدم مرحلة التعريف والتأسيس، وحدد الثوابت والمنطلقات، بلغة تلائم تلك المرحلة".
وأضاف لـ"
عربي21": "لكن المرحلة الحالية تحتاج إلى لغة خطاب مختلفة بعد ما حدث أيضا من تطورات كبيرة على حركة حماس"، مؤكدا أن حماس "أرادت أن تقول للجميع هذه هي حماس، وهذه ثوابتها، وهذا هو فهمها للواقع وللحل".
وأشار إلى أن "حماس أكدت على ثوابتها ومنطلقاتها بلغة مرنة واضحة، لا تقبل التأويل ولا تحتمل أكثر من معنى، فهي قد جمعت كل ما تحدث به قادتها منذ 30 عاما في ورقة حتى تكون مرجعية للجميع، وحتى لا يحملها البعض أكثر مما تحتمل، خاصة أن هناك من كان يجتزء الأقوال ويحرفها لعدم وجود وثيقة مكتوبة يمكن الرجوع إليها".
ورأى المحلل السياسي الصواف أن قبول حماس بدولة على حدود الـ67 ليس جديدا على حركة حماس، فقد كان الشيخ أحمد ياسين رحمه الله أول من تحدث بذلك، ولكن -وهذه مسألة مهمة- دون الاعتراف بحق المحتل فيما اغتصب، وهو ما أكدت عليه الوثيقة الجديدة.
ولفت الصواف إلى أن "الوثيقة نصت على أن فلسطين كل فلسطين حق للشعب الفلسطيني، وأن الغاصب لا حق له، وأن المقاومة طريق التحرير".
وذكّر الصواف أن "ميثاق حماس 88، قال إن حماس تقبل بقيام دولة ولو على شبر محرر"، متسائلا: "فكيف لو كان هذا الشبر الضفة الغربية وقطاع غزة، دون الاعتراف بالاحتلال بالطبع؟".
ولاحظ الصواف أن "حماس في وثيقتها الجديدة لم تذكر الاحتلال بكلمة دولة، وهذا له مدلولات سياسية"، لافتا إلى أن "هذه الصيغة توافقية فلسطينية تحدثت عنها وثيقة الوفاق (الأسرى) 2006".
وردا على سؤال: "ألا يعني قبول حماس بقيام دولة على
حدود 67 اعترافا ضمنيا بالأمر الواقع بكل أبعاده وشروطه؟"، أجاب الصواف: "هناك أمر واقع لا يمكن لعاقل إنكاره، ولكن الأهم هو هل حماس قبلت بهذا الواقع، أم إنها تحاول تغيير هذا الواقع المرفوض، الذي وجد لأسباب كثيرة لا مجال للحديث عنها؟".
وخلص الصواف إلى القول: "نعم هذا هو الأمر الواقع، ولكن الاعتراف به والتسليم له هو اعتراف به، لكن تغيير هذا الواقع يعني رفضه، وأعتقد بأن حماس تعمل على تغييره قولا وعملا، قولا كما هو وارد في الوثيقة، وعملا عبر المقاومة".