انتخبت فرنسا أصغر رئيس في تاريخها السياسي، والثامن في قائمة رؤساء الجمهورية الخامسة (1958)، فحتى نابليون الذي كان يُشار لصغر سنه يكبر الرئيس المنتخب " إيماتنويل ماكرون" بسنه الـ(40). أما عالميا، فيعتبر رئيس فرنسا الجديد رابع أصغر رئيس بعد كل من رئيس كوريا الشمالية (34 سنة)، وأمير قطر (36)، وملك " البوطان" (37). لكن أهمية موقع " ماكرون" ضمن هذه الثلة من الرؤساء صغار السن، تعود لكونه أصبح رئيس خامس قوة اقتصادية في المعمور، وأحد أقدم الديمقراطيات ثقافة وممارسة وسلوكا، ورمزاً لأكثر الشرائح الاجتماعية تطلعا إلى التغيير، أي الشباب ومن في حكمهم.
جاء فوزُ " ماكرون" كبيرا ومُبهرا، وأكثر مما ذهبت إليه التوقعات، بل إن الأوصاف التي عبرت من خلالها شرائح واسعة من الطبقة السياسية الفرنسية، ونظيراتها في الجوار الأوروبي والعالم، كانت دالة، وعميقة، وذات معان جذابة عن التحولات التي طالت الحياة السياسية الفرنسية، وستطالها أكثر في المستقبل. فـ"ماكرون"، ومن يناضل معه في حركته، ويناصره في تنافسه من أجل السلطة، حمل رؤية بديلة لما اعترى المشهد الحزبي والسياسي الفرنسي من تكلس وضيق الأفق.. إنه بديل استنهاض فرنسا من كبوتها، ومدها بالتفاؤل الذي يمنحها القوة لاستمرارها لاعباً مركزيا في العالم، والإبقاء عليها بلد حقوق الإنسان، والتعددية الثقافية والإثنية، والعنصر البناء في الفضاء الأوروبي، والمناهض لكل أشكال التطرف، وعلى رأسها التطرف الديني، والإثني، واللغوي. فمن مظاهر الأفق الجديد كذلك، أن انتصار " ماكرون"، تأسس على مُعطى سياسي لم تشهده فرنسا إطلاقاً من قبل، وهو انهيار " الإيديولوجيات الكبرى"، ورموزها السياسية ( الزعامات)، سواء تعلق الأمر برموز "الديغولوية" و "التيرات الجمهورية"، أو ارتبط ذلك بالاشتراكيين واليساريين، بمختلف ألوانهم ومسمياتهم.
من تابع البارحة (الأحد 07 أيار/مايو 2017) سهرة الرئاسيات، واستمع إلى خطابي "ماكرون"، سيلمس عناصر الرؤية - البديل التي أشرت إليها أعلاه، وسيلاحظ " ماكرون" الرئيس في الخطاب الأول، بصرامته، وإصراره، والكلمات القوية التي أثثت نص كلامه، والرسائل الكثيفة والكثيرة التي انطوى عليها خطابُه.
ويشاهد في الخطاب الثاني "ماكرون" المنتشي بلحظة النصر، الشاكر لمناضلي حركته والمناصرين له، والمتوجه إلى فرنسا المفرد بصيغة الجمع.. فرنسا الموحدة بقيمها الجمهورية، وثقافتها السياسية الديمقراطية، وجذورها الأوروبية ، وحضارتها الغربية، وأيضا "ماكرون" الإنسان والكائن الاجتماعي.
ففي كل الأحوال عاش الفرنسيون شهورا من التنافس الانتخابي، ربما لم يعرفوا نظيرا لها في ظل الجمهورية الخامسة..فكان نصرهم مزدوجا: انتصروا على " اليمين المتطرف"، ووقفوا سدا منيعا أمام تطلعاته، وانتصروا بانتخاب رئيس شاب، يحمل رؤية جديدة، عليها الكثير من النقد وعلامات الاستفهام، ولها قدر كبير من حظوظ التطور والنجاح. يصعب حقيقة الحكم على مستقبل ولاية " ماكرون" من الآن وحتى نهاية ولايته بعد خمس سنوات (2017- 2022). لكن من الممكن التفكير في التحديات التي تبدو واضحة ولا اختلاف حولها داخل المجال السياسي الفرنسي، والتي تنتظر " إيمانويل ماكرون"، وتستدعيه للتعاطي معها بكثير من الذكاء والاجتهاد، والبحث عن المشترك عبر التوافقات.
أول هذه التحديات وأخطرها أن " ماكرون" فاز كرئيس للبلاد ، وعليه أن يفوز كممارسة للحكم ضمن أغلبية نيابية مريحة، تشكل فعلا رداءه البرلماني، وتمده بحكومة قادرة على تنفيذ برنامجه بطريقة تجعله وفياً للوعود التي قطعها على نفسه أمام الناخبين، في كل المجالات، وعلى وجه الخصوص في الميادين ذات الوقع العميق على أوضاعهم الاجتماعية وأحوالهم المعيشية. لقد وعد "ماكرون" الفرنسيين بمعالجة الاختلالات التي أصابت النسيج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، عبر سياسات عمومية واقعية وقابلة للتنفيذ، كما حرضهم على القطيعة مع سياسة التخويف وزرع التشكيك في قدرات بلدهم، والتنصل من فضائهم الأوروبي ، والعالم، وحثهم، بالمقابل، على الثقة في كفاءة بلدهم على النهوض والريادة، وقدرة مواطنيهم على الاستمرار شركاء وأنداداً مع أقرانهم من الأوروبيين، وحفزهم، بالقناع، على الاطمئنان على إمكانيات دولتهم في بث الأمن واستتبابه في كافة ربوع بلدهم.
صحيح أن " ماكرون" ظفر بـ 65.8 بالمائة من أصوات المشاركين في الاقتراع، نظير 34.2 بالمائة لمنافسته "مارين لوبان "، وأن كتلا ناخبة صوتت لصالحه من اليمين والوسط واليسار، بسبب الشعور بالخطر من فوز اليمين المتطرف، ولأن اقتراع الدور الأول أفضت نتائجه إلى إقصاء اليمين ووسطه) فرانسوا فيون(واليسار بكل رموزه) جان ليك ملنشون و بنوا هامون (غير أن عمل " ماكرون" لن يستقيم، إذا لم يستطع الحصول على نتائج مشجعة في الانتخابات التشريعية المقبلة) يونيو2017(تؤهله لتكوين أغلبية داعمة للرئيس، أو على الأقل تسمح له بالحث عن تحالفات مقبولة، ومؤهلة لأن تمنحه الغطاء البرلماني الذي هو في حاجة إليه. أما إذا لم يقدر "ماكرون" على اجتياز اختبار تكوين أغلبية برلمانية وازنة ومتماسكة، فإن حظوظه في الحكم بأريحية ستكون محدودة، وربما صعبة للغاية.. لنتذكر ما حصل لرؤساء فرنسيين سابقين، حين اضطروا على إدارة شؤون الدولة برأسين، أي برئيس دولة منتخب، وأغلبية برلمانية هي الأخرى منتخبة، ووزير أول منبثق عنها، وإن كان دستور الجمهورية الخامسة لا يُشير صراحة إلى تعيين رئيس الوزراء من الأغلبية البرلمانية) الجمعية الوطنية (كما هو معمول به في مجمل النظم البرلمانية. لاشك أن الأجل المتبقي للاقتراع التشريعي القادم قصير جدا، وأن "ماكرون" وحركته وأنصاره سيجدون أنفسهم أمام أوضاع سياسية بالغة الأهمية والخطورة، كما سيشعرون أنهم في حاجة ماسة إلى اجتهاد أكثر، وعقلانية أعمق، واجتهاد خلاق لضمان الاستمرارية وخلق المفاجأة في المستقبل القريب.