أنهت اللجنة الرباعية الدولية ـ المكونة من الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي، والأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية أشغالها في بروكسيل الثلاثاء الماضي (23 مايو 2017)، بالتشديد على أولوية الحل السلمي لفصول الصراع الدائر في هذا البلد، ومنع أي تدخل من قبل القوى الدولية والإقليمية، من شأنه الانتصار لطرف على حساب طرف آخر، لعل هذا هو العنوان الأبرز في خلاصات مناقشات أطراف اللجنة الرباعية، ورسالتهم القوية لليبيين وللمنتظم الدولي على حد سواء.
لم يكن طبعا مطروحا على جدول أعمال اللجنة الرباعية الدولية أزمة العملية السياسية في ليبيا فحسب، بل عرفت مناقشات أطراف اللجنة موضوعات أخرى ذات صلة بما يجري في ليبيا، ومنها مشكلة المهاجرين، بمختلف أشكالهم وأنواعهم، والانعكاسات المترتبة عن موجات التدفق على الأراضي الليبية، وسُبل معالجتها إقليميا ودوليا، يُضاف إلى ذلك المذبحة التي وقعت في قاعدة "براك الشاطئ" على أطراف مدينة سبها في الجنوب الليبي، التي ذهب ضحيتها 140 قتيلا من الضباط والجنود والمدنيين الأبرياء، ناهيك عن الجرحى والمعطوبين. والواقع أن مجمل هذه الموضوعات ليست بالجديدة، ولا بالمفاجأة، بل هي تتدخل من قبيل ما أصبح، مع الأسف، مألوفا في الحياة الليبية منذ أكثر من خمس سنوات. لذلك، لا يُتوقع أن تكون لمخرجات اللقاء الثاني للجنة الرباعية الدولية من الآثار ما يمكن الليبيين من الخروج من المأزق الذي ولجوا أنفاقه دون معالم واضحة للتخلص منه، منذ سقوط النظام في فبراير 2012.
تقودنا هذه الخلاصة إلى القول بأن ثمة تدافعا وتصارعا للإرادات في ليبيا، ومن ينظر بإمعان في التطورات التي أعقبت سقوط النظام، وموجات العنف التي واكبت هذا السقوط، يُدرك طبيعة الصراع في الداخل الذي غدا مفتوحا أمام أكثر من قوة سياسية وعسكرية، تارة بين "الليبراليين" و"الإسلاميين"، و"القوميين" و"العروبيين"، وفلول النظام، وطورا بين الميليشيات ذات البعد الجهوي والقبلي والعشائري.. إنها "حرب الجميع ضد الجميع"، بتعبير الإنجليزي "توماس هوبز".. إننا في الواقع أمام كتل من القوى المتناحرة، المدججة بالسلاح. وفي المقابل، هناك صراع الخارج، الذي تؤكده وتعبر عن تطلعاته قوى دولية بأجندة وبرامج مختلفة، وأيضا قوى إقليمية تتطلع لأن يكون لها نصيب في قسمة ليبيا المنهارة. نحن إذن أمام صراع حقيقي للإرادات، يفرقها غياب أي تفكير جدي في إنقاذ ليبيا من التقسيم، ويوحدها هدف واحد الاستفادة من قسمة تركة ليبيا الممزقة.
ليس براديغم صراع الإرادات جديدا لتفسير ما يجري في ليبيا، بل هو مفهوم قديم استُثمِر في الكثير من أدبيات العلاقات الدولية، وتمّ الاستناد إليه منهجيا لمعرفة مصادر التوترات الجارية في العالم المعاصر. ففي كل ما جرى ويجري في المنطقة العربية يصلح تفسيره باستخدام هذا المفهوم. نجد هذا حاضراً في قضية فلسطين، وفي العراق وسوريا الآن، وفي اليمن، وأيضا في ليبيا، وقد يمتد إلى أقطار عربية أخرى في المستقبل. فهكذا، نجد صراع إرادات أمريكا والغرب عموما وإيران في العراق وصراع هذه القوى مضاف إليها إرادات روسيا، وقوى إقليمية، من قبيل بعض دول الخليج العربي في الحالة السورية واليمنية، ونلمس صراع إرادات أمريكا، وفرنسا، وقطر، والإمارات، وإلى حد ما روسيا في المسألة الليبية. والواقع أن التصادم بين هذه الإرادات يجد مصدره في المنافع المادية (الثروات) والمعنوية (توسيع دائرة النفوذ السياسي والمذهبي)، التي تروم أطرافه وفاعلوه الحصول عليها.
لذلك ـ وهذا ما أدركته بحكمة فئات واسعة من الشعب الليبي، مُعززة بقوى مناصِرة لها في محيطها الدولي والإقليمي ـ على الليبيين أن يُنصتوا لنداء وطنهم، ويتكاتفوا من أجل إنقاذه مما قد يتعرض له، إن هو استمر في الطريق التي قادته إلى ما قادته إليه.. وأول خطوة في الإنقاذ أن يصوغوا توافقا يوقف، من جهة، صوت البنادق وأزيز السلاح، ويلمّ، من جهة أخرى، كلمتهم على كتابة تاريخ جديد لبلدهم، تاريخ تأسيس الدولة وبناء الشرعية، عبر التراضي حول دستور يمثل تعاقدياً سياسياً حقيقياً، وإقامة مؤسسات دستورية معبرة عنه ومنسجمة مع روحه، وتالياً إنعاش الاقتصاد والاستثمار والإنتاج، وإعادة الثقة للمواطنين الذين عانوا أكثر من أربعة عقود، ويتوقون اليوم إلى عيش جديد بشروط جديدة.
يذهب الكثير من المحللين والمتابعين لتطور العملية السياسية في ليبيا إلى أن ثمة استعصاء حقيقيا في إعادة بناء الدولة الليبية الجديدة، ويفسرون ذلك بكون معضلة الاستعصاء ليست مرتبطة بثقل إرث النظام المُنهار فحسب، بل متصلة أيضا بتعدد الرهانات الدولية والجهوية في ليبيا، وتنوع أجندة الأحزاب والقوى السياسية الداخلية في ليبيا.
ومع ذلك، الاستعصاء قدر ليبيا المحتوم، كما ليس واقعا غير قابل للتجاوز، إنه معطى موضوعي يرتهن بناء "ليبيا الجديدة" بمدى فهم تعقيداته، والقدرة على تجاوزه إيجابيا. والحقيقة أن الانتصار على استعصاء من هذا الحجم مرتبط بشكل عميق بكفاءة النخبة السياسية الليبية على إنجاز متطلبات المرحلة الانتقالية باقتدار، وهي في كل الأحوال متطلبات معروفة ومفهومة في أدبيات "علم الانتقال"، من قبيل النجاح في تفكيك إرث النظام القديم، والقدرة على بناء التوافق بين كامل الفاعلين السياسيين، وفتح المجال للمجتمع ليكون مناصرا للمشروع الجديد وحاميا له من التراجع أو النكوص.. إنها متطلبات صعبة، لكن ليست بعيدة المنال.