كل الذين حفظوا نزرا من شعر المتنبي يستعيدون سؤاله في كل عيد بأية حال عدت يا عيد؟
والسؤال يأتي غالبا مشحونا بمعنى حزين رغم أن المناسبة تفتح على الفرح. يوجد في الأرواح سر كامن يجعل السؤال يعود بنغمته الحزينة ثم يهرب الناس من الحزن الكامن في السؤال إلى فرح غامر يكتشفون سريعا أنه فرح عابر فيعودون إلى الحياة السادرة ويخفون سؤال المتنبي إلى عيد قادم
حزن عربي دفين يستيقظ في الأعياد ثم يخفى سريعا لكي تستمر الحياة فالحياة أبقى ولو داخل غلاف زائف من السعادة العابرة. أنا أحد الذين يتظاهرون بالفرح بصفته فرحا لكني أصل سريعا إلى أنه واجب اجتماعي فاستعيد سؤال المتنبي واستمر فلست إلا مواطنا عربيا ومواطنتي حتى الآن تعبير مجازي فأنا دافع ضرائب لنظام عربي لا يسعدني بوجودي المواطني.
طقوس إخفاء الحزن بالمغالاة في الفرح
إحدى أهم الحيل التي نستعملها في تمويه الأحزان هي القول بأن عيد الفطر هو عيد الصغير أي عيد الأطفال. وفي عيد الكبير أي عيد الأضحى نفرط في التلذذ الكمي الحسي المباشر بوجبة لحيمة دسمة وبصور الحج الأكبر الذي قربته التلفزات من خيالنا الممعن في التعبد الشكلي.
نستحضر أطفالنا فنكف عن التأمل الحزين. للأطفال الصغار حق مقدس في الفرح أي أننا ضمنيا مقتنعون بسبب الحزن ولكننا نجاهد في حماية الأطفال منه باكسائهم كسوة جديدة وحملهم إلى ملاعب الطفولة إذا توفرت وقليلا ما هي في مدن العرب المبنية للموت البطيء. مدن العرب كافة لم تبن للأطفال بل هي مقابر كهول يعلمون بصمت في انتظار النهايات. مدن بلا ملاعب للطفولة اللهم أسواق البلاستيك الصيني المستوردة خارج القانون.
يحوّل التجار أعيادنا إلى مناسبات للكسب الفاحش السريع وهذه ليست ميزة عربية بل هو قانون السوق ولكن تجار الفرح عندنا يمعنون في سلبنا فمقارنة الجودة إلى الثمن في الملابس والألعاب تجعلنا على قناعة تامة إلى أننا نتعرض إلى سرقة موصوفة. ويمكننا أن نجد في نوع السلع سببا جيّدا للحزن فبلد مثل تونس وبعد ستين عاما من الاستقلال والسيادة لا يزال يستورد لعب أطفاله ولا يبتكر لهم لعبة من عندهم فيها ثقافتهم وتراثهم بل يكتفى بنشر مدافع البلاستيك و دمية "باربي" وملابس الرجل العنكبوت وما شابهها من صور ثقافة هوليود العنيفة المنتجة لشخصيات صغيرة ميالة إلى العنف المسلح. وقد علق أحد أصدقائي الذين يقاومون ثقافة العنف أن كل من أعطيناهم مدافع بلاستيكية وتركناهم يقتتلون بها ولم نراقبهم انتهوا عند داعش.
إنه لمحزن فعلا أن لا نبتكر فرحا من عندنا نربي عليه أطفالنا الصغار في مناسبات الفرح الطفولي مثلما أنه من دواعي الحزن القاتم أن لا نخطط مدننا ليعيش فيها الأطفال بل يكتفى عباقرة هندسة المدن ببناء مآوى للكهول المتعبين للنوم بين فترتي شقاء غير ذي مردود يسعدهم في يومهم. في
العيد نكتشف أن مدننا حزينة وهامش الفرح الذي نختلفه اختلاقا لا يجد له مكانا. وعندما نبدأ في تعديل آفاق الفرح على ممكنات المكان نقول فرح بالحد الأدنى ونمر دون وعي كبير إلى تخطيط خبز ما بعد الفرح فيكون خبزا حزينا. في غمرة إسعاد الأطفال يبدأ الكهول في تتريب الحزن الموالي وما فرح الأطفال القصير الأمد إلا خطوة في اتجاه حزن الكهول المرهقين. في العيد نحن نؤجل حزن أطفالنا لأننا ولدنا في مدن حزينة. نشغلهم فيها بألعاب مصنوعة في تايوان.
النخب الحزينة تصنع الحزن
هذا العنوان يشملني فأنا أحد صناع الحزن لأنني مصنف بحكم الشهادة العلمية في النخب. ولكني أتظاهر بالبراءة وألقي العبء على الدولة والحكومة والنخب الحزينة وأقفز فوق ربوة البراءة. ليلة العيد استعرضت منشورات أصدقائي العرب من المحيط إلى المحيط في صفحاتهم على الفايس بوك فلم أجد إلا عربيا يعدد آلامه وينوح على أمة غابرة. لم يصل ذكائي إلى ابتكار حيل للفرح فكتبت عن الحزن. وقلت ما أنا إلا من غزية ولم ترشد غزية فلم أجد للرشد السعيد سبيلا لكني احتفظت بحقي في سؤال أمتي العربية المغرقة في الحلوى والصلاة.
ثلاث وثلاثون سنة من القرن الخامس عشر للهجرة النبوية الشريفة عشتها راشدا ولم يمر علي عيد إلا وفي أرض العرب حرب جديدة. حتى أنه لم يعد لدي سبب للسؤال عن أربعة عشر قرنا كاملة من الإسلام وكيف عاش العرب أعيادهم قبل بدء القرن الجديد.
يقول لي صديقي الذي يرمّم لحظته بما تيسر من حلوى لأطفاله إذا كان في العراق موت فهل علي أن أحزن في تونس؟ فلم يمر عام إلا وفي العراق موت أليس أن السياب قد قال ذلك وختم الكلام؟ فأرد بلا إيمان حقيقي ألم يقل الحديث من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ونرتبك كلانا فنحن من المسلمين وآلامهم تجرحنا في السويداء؟
طيب ماذا نفعل للشيخ محمد بن زايد الذي يفتتح حربا جديدة في بلاد المسلمين قبل إغلاق ملفات الحروب السابقة ويقبض ثمنها من فرحنا بالعيد؟ وهو يصلي عيده في مساجدنا ويذكرنا بالحديث النبوي؟ ونذهب بعيدا في السؤال الهارب هل نحن مسلمون على دين واحد؟ ما الذي يجمع هؤلاء الذين ينتمون إلى إسلام واحد في رقعة واحدة تصلي لقبلة واحدة وتقرأ قرآنا واحدا وتقول بأمر المسلمين الواحد؟ ثم نطرح سؤال الهروب الفلسفي كيف نعزل مربعات للفرح عن غبار الحرب؟ ونتخم غالبا بقناعة أن مربعات فرحنا تشبه تلك الفجوة/الهدنة التي يخلقها المتحاربون لإنقاذ الجرحى قبل مواصلة المعارك نحن عرب جرحى في حرب طويلة وفرحنا ليس أكثر من تطوير الأمل بالنجاة من الجروح القاتلة.
رغم ذلك نحتاج إلى فرح
زاوية النظر الحزينة التي أعطت الفقرات السابقة تحتاج إلى نهاية. لكن كيف نختلق الفرح ونعيشه فعلا لا ادعاء؟ سأكذب على نفسي وأرجو من القارئ العابر فوق المقال أن يصدقني فبعض الفرح كذب صراح. كل الحروب العربية لم تفننا نحن مازلنا هنا ونختلف أفراحا قصيرة تكشف حبنا للحياة وتعطينا الأمل لنقفز فوق التفاصيل الصغيرة إلى الشعارات الكبيرة.
قرن كامل من محاولات الاختراق الصهيوني لم تفلح في شغل العرب عن قضيتهم الأم. الشعب العربي لم يطبع مع أعدائه ومازال يجد بوصلته القدس وفلسطين وإن كان يشاهد يوميا القتل والسحل في صفوفهم ولكنه يحتفظ بمقياس سليم كل مطبع مع العدو خائن. هذا سبب جيد للفرح مناعة الأمة رغم الحزن باقية تذود عن الحمى.
وعي كبير بالحرية يسرى في النفوس وينحاز إلى
الثورة فيمنع شمعتها من الانطفاء بفعل رياح الردة التي أنتجت الحزن لقرن كامل. نعرف الآن الكثير عن أسباب الحزن ومنتجيه وزارعيه في نفوسنا بقنوات الإحباط والتثبيط والشعور الجيد في قمة كل هذا الألم هي أننا نمسك برأس خيط العلاج النفسي الذي يجعل شعبا حيا لا يموت ويتفاعل طبقا لحديث صحيح من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
هناك فرز سريع يجري على قاعدة الاهتمام بأمور المسلمين والانشغال بآلامهم بغية علاجها. إن معركة الشعب العربي (جزء مكين من أمة الإسلام) واحدة هي معركة حريات وتنمية ستصل يوما إلى تصنيع ألعاب أطفالنا دون استيرادها من تايوان .هذا الشعور حدد بدقة أعداء الأمة وتحديد العدو بداية معركة منتصرة. حتى هذه اللحظة يبدو هذا أنشاء كلاميا يصطنع الفرح ولكن زمن
الشعوب ليس زمن الأفراد.
وإذا كان الأفراد يستعجلون الفرح طبقا لمقياسهم الزمني فالشعوب تمد خطاها إلى تغيير أطول في الزمن لخلق أسباب المنعة الدائمة التي تصنع قواعد فرح دائم يتجاوز لهفة مهربي البلاستيك الصيني، إلى بناء رؤية للعالم لا ترى البطل الهوليوودي بطلا حقيقيا وإنما كذبة سافلة صدقها قادة الثورة المضادة وحدهم وجثوا أمامها يصلون!