نظمت منظمة "مجاهدي خلق" الإيرانية مؤتمرها السنوي في باريس السبت 1 يوليو 2017، شارك فيه مسؤولون سابقون من دول عدة، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا والسعودية.
التغطية الإعلامية المباشرة لأحداث المؤتمر في وسائل إعلامية محسوبة على السعودية والإمارات مثل العربية وسكاي نيوز، ومستوى الضيوف المشاركين فيه، تقدم صورة للمتابعين والمراقبين عن هذه المنظمة وقادتها، لا تعكس الحقيقة وتغاير وزنها السياسي في الداخل الإيراني تماما، وما يساعد في القبول السريع بهذه الصورة المغلوطة عند البعض، هو الفضاء الإقليمي المشحون بالتوتر مع إيران، الذي لا يبحث فيه الناس إلا عما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.
منظمة مجاهدي خلق التي توصف في الأدبيات الرسمية الداخلية بـ "زمرة المنافقين"، لا تحظى اليوم بأي ثقل سياسي وامتداد في الداخل الإيراني، يجعل من لاعبين دوليين وإقليميين الاستثمار فيه والرهان عليه كموطىء قدم في المستقبل السياسي الإيراني، وإن صح التعبير فهي زمرة منبوذة حتى من المعارضة الإيرانية في الداخل والخارج قبل أن تكون منبوذة من أنصار النظام الإيراني نفسه، والشعب الإيراني بشكل عام، وذلك لأسباب عديدة، أهمها دخول المنظمة في مسار الانحراف الفكري والسياسي قبل الانحراف السلوكي بعد عقد من تأسيسها تقريبا في نهايات العصر البهلوي وقبيل انتصار الثورة الإيرانية بسنوات عدة، فتوجه المنظمة نحو الفكر الماركسي وتبنيها ذلك، وغياب الهوية المحددة واضحة المعالم، من خلال المزج بين الإسلامية، واليسار المنحرف، والممارسة العسكرية، أدى إلى نشوء هجين تنظيمي خطير.
قبل أن تشهد المنظمة تذبذبات فكرية وسياسية، كان لها سجل نضالي ضد الشاه، وكان أعضاؤها وقادتها المؤسسون مقربين من رموز التيار الوطني الإسلامي، أمثال آية الله طالقاني، الذين تبرأوا منها لاحقاً. وأحدث تأثرها بالفكر الماركسي اللينيني انشقاقات داخلية في التيار المارکسي قبيل الثورة بأشهر معدودة، ظهرت في ثلاث حركات حملت عناوين ماركسية "الاتحاد النضالي لأجل الطبقة العمالية"، و"النضال لأجل تحرير الطبقة العمالية"، و"النضال لأجل حرية الطبقة العمالية".
بعد خروج مسعود رجوي من السجن أيام الثورة الإسلامية، أعاد التيار تنظيم نفسه تحت المسمى القديم "مجاهدي خلق"، محاولا الحفاظ على طابعه الديني، لكن سرعان ما اختلف مع مؤسس الثورة الإسلامية "آية الله الخميني"، وانتهزت المنظمة الأجواء السياسية في إيران بعد عزل الرئيس بني صدر، ودعت أنصارها إلى حمل السلاح ومواجهة الثورة الناشئة في الشارع، فقامت بعمليات اغتيال ضد الشخصيات الثورية، أبرزهم الرئيس الإيراني الأسبق "محمد علي رجائي"، ورئيس وزرائه "محمد جواد باهنر"، وتفجير مقر حزب الجمهورية الإسلامية واغتيال رئيس السلطة القضائية "آية الله بهشتي"، وعشرات عمليات أخرى.
هذه العمليات دفعت الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية لاحقا إلى إدراج منظمة مجاهدي خلق ضمن قوائم الإرهاب لسنوات عديدة، وذلك قبل أن يتم حذف اسمها في عامي 2009 و2012.
بعد فشل المنظمة في الاستيلاء على السلطة عبر استخدام السلاح، هرب قادتها إلى فرنسا وثم إلى العراق إبان الحرب العراقية الإيرانية. شاركت المنظمة في الحرب إلى جانب القوات العراقية، وقامت بعدة عمليات عسكرية كبيرة في السنوات الأخيرة من الحرب وحتى قبيل القرار الأممي 598 القاضي بوقفها، كان ذلك انتحاراً سياسياً واجهت الحركة نتائجه السلبية بين أبناء الشعب الإيراني.
لجوء منظمة مجاهدي خلق إلى السلاح في الخلافات الداخلية، وقتلها المئات من الإيرانيين وعلى رأسهم شخصيات كبيرة بعيد الثورة التي كانت خيار الأغلبية الساحقة من الإيرانيين في مواجهة الشاه، ومشاركتها الفاعلة في الحرب ضد إيران، وقيامها بالكشف عن مواقع نووية إيرانية لاستخبارات دول غربية وتحريض هذه الدول لفرض مزيد من العقوبات على طهران، حولت منظمة مجاهدي خلق إلى جسم منبوذ وموتور بين الناس.
فضلا عن ذلك، فإن التركيبة العقلية المغلقة الخاصة بالمنظمة وأجندتها خلقت جسما مخيفا ينفر منه الجميع، لذلك لم نر مشاركة فاعلة من بقية التيارات الإيرانية المعارضة في الخارج في مؤتمرات المنظمة السنوية.
كما أن تنصيب مريم رجوي نفسها رئيسة للجمهورية الإيرانية في المنفى، بعد زعيم المنظمة مسعود رجوي الذي أصبح مصيره مجهولا منذ 14 عاما، ولم يظهر مرة واحدة على الملأ خلال هذه السنوات، عرضهم للسخرية من الجميع من جهة، وأظهر عنجهية وسلطوية هذه المنظمة من جهة أخرى.
السياسة التي تتبناها منظمة "خلق" في مواجهة النظام الإيراني هي التغيير باستخدام القوة المسنودة من الخارج، ومن هنا تأتي دعوات قادة المنظمة القوى العالمية لشن حرب على إيران لإسقاط نظامها، مما يلقى رفضا شعبيا في إيران جملة وتفصيلا، ويزيد من شكوك الإيرانيين بغايات منظمة خلق من وراء هذه الدعوات. إذ أن الإيرانيين وعلى رأسهم من لا يوافق النظام الإيراني يعارضون هذا التوجه، رافضين استخدام القوة داخليا أو خارجيا ضد إيران.
وما يزيد الطين بلة، جهل أو تجاهل "خلق" نفسها لحقيقة الأوضاع الداخلية في إيران، حيث تحدثت رئيسة المنظمة "مريم رجوي" في مؤتمر باريس الأخير أن 96 بالمائة من الشعب الإيراني معارضون للنظام الإيراني. هذا التجاهل يمثل استخفافا سافرا بعقول الإيرانيين أولا قبل الضيوف، حيث أن مشاركة 70 بالمائة من الإيرانيين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة تدحض هذا الادعاء.
بطبيعة الحال، هناك إيرانيون يختلفون مع النظام الحاكم وسياساته الداخلية والخارجية، لكن هؤلاء لا يميلون إلى العقلية العسكرية لتغيير الوضع القائم كما يحلو لمنظمة "خلق" أن تصوره، وإنما يسعى كثير منهم إلى إصلاح هذا الوضع تحت سقف الخيارات التي يوفرها النظام، وعلى رأسها الانتخابات.
جملة هذه العوامل ساهمت في تأسيس حالة عداء تجاه منظمة مجاهدي خلق لدى عموم الإيرانيين، والتيارات السياسية الإيرانية، الأصولية منها أو الإصلاحية، وحتى المعارضة في الداخل والخارج.
اليوم ما يثير الدهشة هو الرهان الغربي والسعودي على هذا الحصان الإيراني الخاسر الذي لا يتمتع بأي مصداقية ورصيد سياسي وشعبي في الداخل الإيراني، فلن تشكل "خلق" حصان طروادة الذي يمكن أن تسقط من خلاله النظام.
هنا السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هل الغرب والسعودية يجهلون حقيقة الأوضاع في إيران؟ أم أنهم يبتغون مآرب أخرى بهذا التجاهل عبر استضافة مؤتمرات هذه المنظمة والمشاركة فيها؟ وإذا كانوا على علم بالأوضاع السياسية الداخلية في إيران، فما الهدف من الاستثمار في حصان خاسر؟
المستبعد في الإجابة عن التساؤل هو جهل هذه الأطراف بالحجم الحقيقي لمنظمة خلق، وهذا ما يوصلنا إلى القناعة أن الغاية من هذه الخطوات هي بروباغندا إعلامية وتسجيل نقاط في المعركة الإعلامية الجارية بين إيران وخصومها، بالذات السعودية، التي يحل رئيس استخباراتها السابق "تركي الفيصل" ضيفا منذ عامين على مؤتمرات "خلق" في تطور لافت يأتي على خلفية الأزمة الراهنة في العلاقات الثنائية.
كما أن هذا الأمر يأتي في إطار سعي الدول الإقليمية إلى كسب مزيد من أوراق القوة بغض النظر عن أوزانها وأحجامها في صراعاتها البينية، لاستخدامها في المساومات والتسويات المستقبلية.
أما وفيما يتعلق بمستوى الضيوف الأجانب المشاركين في المؤتمر، فإنها لم تختلف عن العام الماضي، مما يعني أن منظمة خلق لم تتمكن من اختراق جديد في علاقاتها الخارجية، كما أن السعودية أيضا لم تنجح في إقناع ضيوف آخرين من الدول العربية بالمشاركة فيه، ما عدا نواب من مصر وشخصيات من السلطة الفلسطينية، الذين شاركوا في الدورة السابقة للمؤتمر أيضا.
المشاركة السعودية اللافتة منذ عامين في مؤتمرات خلق لا تعني التأسيس للعلاقة مع هذه المنظمة، بل إنها تأتي في سياق الكشف عن علاقة قديمة نشأت في عهد تولي الفيصل رئاسة الاستخبارات السعودية في ثمانينات القرن الماضي.
ومن جانب آخر، تأتي المشاركة السعودية هذا العام بعد تصريحات لولي العهد السعودي الجديد حول نقل الحرب إلى داخل إيران واشتداد المعارك بين الجانبين.
والخطورة هنا أنه هل تتجرأ السعودية مستقبلا بتنفيذ تهديدها لنقل الحرب إلى داخل إيران من خلال إرسال عناصر من منظمة خلق التي لها سجل كبير في القيام بعمليات الاغتيال والتفجيرات؟ لعل المستقبل يجيب عن هذا السؤال.
أما الضيوف الأمريكان والأوربيون فهم الذين شاركوا في المؤتمر السابق ولم يلتحق بهم شخصيات جديدة، أمثال رودي جوليان رئيس بلدية نيويورك السابق، وجون بولتون سفير واشنطن السابق في الأمم المتحدة، ونيوت غينغريج الرئيس السابق لمجلس النواب الأمريكي، وبرنار كوشنير وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، ونواب من البرلمان الأوروبي.
الجديد في هذه الدورة أن هؤلاء الضيوف الأمريكيون لم تكن لهم آذان صاغية في البيت الأبيض خلال ولايتي باراك أوباما لكن اليوم هناك من يسمع لهم، على رأسهم دونالد ترامب الذي يكن العداء الصريح لإيران، وهم بالأساس يُعدّون من مقربيه، وما نطق به هؤلاء في المؤتمر، سبقهم إليه وزير الخارجية الأمريكي قبل فترة وجيزة، من خلال التأكيد على اعتزام بلاده تغيير النظام الإيراني.
والنقطة الأخيرة قبل الختام أن استضافة باريس لهذا المؤتمر بعد أيام من استقبالها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، يثير تساؤلات عديدة، وأهم دلالات هذه الخطوة أنه بالرغم من انفراجات حصلت في العلاقات الإيرانية الأوروبية بعد الاتفاق النووي عام 2013 إلا أنها لم ترتق إلى مستوى تتشابك فيها المصالح، تحول دون هذه الإجراءات الأوروبية الاستفزازية.
وفي هذا السياق، يمكن اعتبار التوقيع على الاتفاقية بين شركة توتال الفرنسية العملاقة وطهران لتطوير أحد أكبر حقول جنوب بارس للغاز بقيمة 5 مليارات الدولارات يوم الإثنين الماضي (3 يوليو)، تدشينا لمرحلة تشبيك المصالح، مما قد تترتب عليها مستقبلا إجراءات تتخذها فرنسا ضد منظمة خلق كما فعل ذلك الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي.
خلاصة القول إن انعدام رصيد شعبي وسياسي لمنظمة مجاهدي خلق في داخل إيران والنظرة العدائية الشعبية تجاهها، يجعل الرهان عليها لمواجهة إيران رهانا خاسرا، والسباحة في بحار السياسة الدولية عكس التيار، بالتالي المراهنة على حصان هرم، خارج حلبة السباق، يدل على سوء التقدير ومغامرة سياسية غير محسوبة.