أحد عشر عاما في
غيبوبة، كفيلة أن تكون في "حضرة الغياب"، أو كما يقول الشاعر محمود درويش: "ظلك، لم يتبعك ولم يخدعك، فقد تسمر هناك وتحجر، ثم اخضر كنبتة سمسم خضراء في النهار".
الصحفي الأردني، والكاتب، والناقد الساخر، غسان صلاح حزين (36 عاما)، كان على موعد مع الغياب ظهر يوم 13 تموز/ يوليو 2006، عندما دخل في غيبوبة إثر
حادث سير تعرض له هو والمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي على طريق العارضة بالأغوار قرب حدود الأردن مع فلسطين.
وبحسب التقارير الطبية، فقد دخل غسان في حالة طبية تدعى الحالة الخُضرية الدائمة (نسبة إلى الخضراوات)، وهي حالة فقد عميق للوعي يكون فيها المصاب حيا، لكنه غير مدرك؛ بسبب نزيف في الدماغ أدى الى تلف الخلايا المسؤولة عن الإدراك، وبحسب قصي حزين شقيق غسان، "لم يسجل العلم حتى الآن قدرته على علاج هذه الحالة، أو أن شخصا أصيب بها استطاع الاستيقاظ من جديد".
والد غسان الكاتب الراحل الأديب صلاح حزين مترجم رواية "قلب الظلام" لجوزيف كنوراد، رحل بعد إصابته بمرض عضال في عام 2009 مخلفا وراءه عملا أدبيا بعنوان "غسان قلبي" يوثق فيه حياة عائلة مع ابنها الغائب عن الوعي منذ 11 عاما.
يسرد صلاح حزين مفارقة عجيبة في كتابه، ويستذكر عندما التقى أول مرة مع المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي في الكويت عام 1983، وحينها أبلغه المخرج معلومة عرضية بأن رئيس أركان إسرائيل السابق، ألعيزر وايزمن أصيب في حرب 1973 ودخل بغيبوبة تدعى (الحالة الخضرية الدائمة)، لتأتي المفارقة ويدور الزمن ويصاب غسان بنفس الحالة، ولم يكن الراكب الوحيد بجانبه وقت الحادث سوى ميشيل نفسه!
الأب الراحل، حوّل حادثة السير التي حصلت لابنه إلى قصة إنسانية، بعد أن عكف الإعلام الأردني على تناول حوادث السير كأرقام وإحصائيات في بلد يحتل مرتبة متقدمة بين دول العالم بنسبة حوادث السير.
واحتل الأردن في عام 2016 المرتبة الثالثة عربيا والثانية والثلاثين عالميا بمعدل وفيات حوادث السير، بحسب التقرير السنوي الصادر عن منظمة الصحة العالمية، حوادث خلفت ضحايا لكل منهم قصة وسيرة تستحق أن تروى.
(غُسَانُ القلب) صميمُه وأعمق نقطة فيه، بهذا العنوان سطر الأب الراحل سيرة ابنه وعائلته في كتاب، وصفته القاصة الفلسطينية حزامة حبايب بـ"النص السردي الحكائي من الطراز الرفيع".
في (غُسَانُ قلبي)، تقول حبايب في تقديمها للكتاب، يبدو الأب صلاح واعيا للعبثية القدرية التي اختطفت الحياة، من ابنه، بحادث سير، كان جدا يمكن تفاديه، هذه العبثية التي دفعت صلاح إلى أن يرتقي بمأساة ابنه، فيضعه في مصاف ضحايا الحرب الإسرائيلية على لبنان التي حصلت قبل يومين من حادثة غسان.
يروي الأب تفاصيل الحادث بحذافيره، يقول إن "غسان كان يصطحب المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي إلى معبر الشيخ حسين الرابط بين الأردن وفلسطين المحتلة، حتى وصلا إلى مفترق طرق، اتجه غسان إلى اليسار، دون أن يدرك أن عليه الدخول في متاهة من المداخل والمخارج المؤدية إلى شارع الشونة الشمالية، دون وجود إشارات ترشد السائقين في الشارع، ليدخل غسان في المسرب ويصطدم بشاحنة صغيرة دمرت مركبته بالكامل، تسببت فيما بعد بكسور ورضوض للمخرج الفلسطيني ونزيف في الدماغ لغسان بمنطقة جذر الدماغ المسؤولة عن الوعي والإدراك".
منذ ذلك الحين، دخل غسان عالم الغياب واللاوعي، لتمضي الأيام ببطء وثقيلة الظل على العائلة التي فقدت ربانها بمرض السرطان، لتخلف الحياة أما تجاهد في صراع الألم، ألم الوالد الرفيق، والابن الحاضر الغائب، وشقيقا وحيدا (قصي) تركت له الأيام حملا ثقيلا.
يخفف عن العائلة بعض الأصدقاء، منهم من تشكلت صداقته دون سابق معرفة، متطوعون يأتون إلى بيت غسان ويقرأون له الروايات، والقصص، والشعر، لمعرفتهم بغسان الشاب المثقف القارئ النهم للأدب، المحب للموسيقى.
بينما تحرص العائلة على تشغيل موسيقى وأغاني زياد الرحباني، وعلي الحجار، والشيخ إمام، وفيروز في غرفة غسان، كما كان يحب أن يسمعها دائما، وتقوم والدته بالعناية به والإشراف على طعامه ضمن ثلاث وجبات يوميه يمضغها غسان بحركات لا إرادية من فمه.
تحاول العائلة، كما يقول قصي شقيق غسان لـ"
عربي21"، البحث من جديد عن علاج، لعل العلم يكون قد تطور خلال الـ11 عاما الماضية، وكلهم أمل في أن يستفيق غسان في يوم من الأيام، ليرووا له ما فاته من أحداث خلال مدة غيابه..
وكم سقطت دول وانقسمت أخرى، وكم رحل ديكتاتور وعاد آخر، وتبقى العائلة تعيش على "فسحة الأمل".