سيذكرنا (شهر أكتوبر) بحدثين هامين فى بلدين كبيرين,الحدث ذاته سيكتسب أهميته من اتصاله بالمؤسسة الأهم فى الدولة الوطنية الحديثة (القوات المسلحة)، والمفارقة أن الحدثين يكادان يفسران ويشرحان ويسهبان فى الشرح عن معضلة كبيرة وهى للأمانة معضلة تاريخية قديمة وهى (الجيوش والسلطة).
الحدث الأول كان فى 6 أكتوبر حين عبر
الجيش المصرى عبوره العظيم عام 1973 وهو الجيش الذى هٌزم هزيمة لا نظير لها عام 1967 والفارق بين الزمنين يحمل متغيرات كثيرة لكن سيظل أهم متغير على الإطلاق هو ابتعاد الجيش عن
السياسة والسلطة وتفرغه التام لدوره المنوط به، والموضوع له تفاصيل كثيرة نكتفى منها بذكر الدور الأعظم لفخر العسكرية المصرية فى تاريخها الحديث(عبد المنعم رياض) حين جاء رئيسا للأركان وبنى جيشا حقيقيا لوطن بحجم مصر وكان شرط الابتعاد عن السياسة والسلطة شرطا رئيسيا له، وأشير هنا الى الفارق بين ما هو استراتيجى وبين ما هو سياسى ,ذاك ان اهتمام الجيوش بالاستراتيجيات من أهم الاهتمامات بل انه الأهمية التى تصنع الاهتمام ذاته.
الحدث الثانى كان فى 5 اكتوبر عام 1988 حين نزل الجيش الجزائرى إلى الشوارع والمدن ليواجه انتفاضة الفقراء التى عمت المدن الكبرى الجزائر العاصمة ,وهران, قسنطينة، عنابة وغيرها وهى الانتفاضة التى فجرها الوضع المعيشي المتردي والبطالة والاقتصاد المنهار والحرمان والاستهانة بالمواطن والبيروقراطية ,الجيش خلال هذه الانتفاضة قتل أكثر من 500 مواطن على حين تم اختطاف الآلاف وتغييبهم قسريا ,لتدخل الجزائر مرحلة من أسوأ مراحل تاريخها الحديث تكاد تكون أسوأ من احتلال الــ137 عاما الفرنسية , سيشرح لنا ذلك الضابط السابق فى الجيش الجزائرى حبيب سويدية فى كتابه الهام(الحرب القذرة)ونشير هنا الى مقطع خطير فى هذا الكتاب الهام يقول فيه ( فهم الناس فيما بعد أن المعتقلات هى أفضل آلة لتفريخ العنف المضاد وكان الجيش يعرف ذلك بل و يتعمد ذلك، كان الهاربون من القتل والحرق والاعتقال سواء من المدنيين أو العسكريين يتجهون لحمل السلاح انتقاما ممن فعل بهم ذلك,الجيش نفسه كان يسهل هروب هؤلاء، بل ويدفعهم لحمل السلاح,كل ذلك كان مطلوبا حتى يعطى قادة الجيش صلاحيات لا محدودة، فى الفتك بالشعب وتطويقه والمحافظة على السلطات والامتيازات اللامحدودة). الحاصل ان الدماء غاضت وفاضت فى بلاد الشهداء لمدة عشر سنوات تقريبا إلى أن تم الاتفاق على ميثاق السلم والمصالحة الوطنية عام 1999م . لازال الجيش يراوح مكانه فى الحياة السياسية وان بشكل مختلف عن ما كان فى الثمانينيات ,فالهزيمة ليست كاملة والنصر ليس تاما والتوتر لاينتهى.
إذا وسعنا دائرة الفهم والمعنى للموضوع كله سنرى أن اهتمام المفكرين وعلماء السياسة بـ (الظاهرة العسكرية) كان اهتماما كبيرا بعد أن أصبحت الجيوش النظامية الضخمة ضرورة حتمية,وأصبح الجيش فى كل وقت حقيقة من حقائق الدولة والحكم والسلطة,سيكون علينا هنا أن نقف وقفة تأمل سريعة لنظرة أفلاطون السيئة إلى نظم الحكم التى تستند إلى أساس واحد فقط من الأسس (الأربعة) المشهورة التى تحدث عنها وضع ألف خط تحت أساس واحد فقط لأنه كان يرى ضروة التوازن فى توزيع القوى داخل الدولة وهى : القوة والثروة والأغلبية والزعامة. القوة تمثلها أوضح تمثيل الجيوش,والثروة تمثلها الشركات الكبرى ورؤوس الأموال العابرة للقارات,الأغلبية وتمثلها الانتخابات والديمقراطية,والزعامة ويمثلها الزعيم الذى يسلب عقول ومشاعر الجماهير ويسحب الجميع وراءه إلى التهلكة(عادة كلهم يفعلون ذلك!!).
لكن ما هو المبرر الذى تستند إليه الجيوش للجلوس على العروش, رصد علماء الاجتماع السياسي عدة أسباب طرحوها للبحث والنقاش منها:
_ضعف المجتمع وتفرقه أو التقاؤه حول التفاهات أو انكفاؤه على نفسه وانشغال كل فرد فيه بهمومه الصغيرة وغياب فكرة التماسك الاجتماعي,حيث المؤسسات القوية والأحزاب التاريخية والنقابات والجمعيات الأهلية الواسعة الانتشار والتأثير, الخبثاء يقولون أن التفكك وعدم
الاستقرار يصب لمصلحة الجيش ذلك أنه القوة الأكثر تماسكا فى البلاد.
ـ انهيار وتدهور السلطة السياسية إلى درجة (انكشاف النظام السياسى) سنكتشف بعدها وقبلها وفى كل الأوقات أن ذلك عادة ما يرتبط بغياب الطبقة المتوسطة وضعف تواجدها السياسى فى المجتمع ومن ثم ينهار التوازن السياسى القائم ويحاول الجيش قيادة النظام السياسى إلى توازن جديد ,العقلاء يقولون أن انهيار السلطة السياسية لا يعنى بالضرورة انقضاض الجيش على تلك السلطة قد يقف مراقبا ومشيرا وناصحا أو حتى حكما بين الفرقاء إلى حين استعادة العافية السياسية للدولة والمجتمع.
ـ الأزمات الاقتصادية الحادة رغم أنها فى ذاتها لا تدعو إلى التدخل العسكرى فى شؤون الحكم خصوصا إذا وجدت مؤسسات سياسية واقتصادية تستطيع أن تحتوى آثار تلك الأزمات وتضع من السياسات ما يعيد النشاط الاقتصادى إلى الطريق الصحيح، البعض يفسر هذا الدور للجيوش بالخوف من استثارة الجماهير وتحركها على نحو غير متوقع
ـ أيضا يعتبر التدخل الخارجى أو الاختراق الأجنبي احد أهم أسباب تدخل الجيوش فى الحكم والسلطة ,يقول علماء السياسة أن تراكم الآثار السابقة أصلا (الانهيار السياسى والاقتصادى والاجتماعى)من شأنه بطبيعة الحال أن يعرض المجتمع كله لخطر التدخل أو الاختراق الأجنبى خصوصا بالنسبة للدول ذات الأهمية الخاصة.
قد يكون حسن النية وراء العسكريين وهم ينظرون إلى السياسة باعتبارها أحد المجالات التى يجب أن يدلوا فيها بدلوهم خاصة إذا كانوا يشعرون بدور تاريخى فى التأسيس الأول للحكم والسياسة فى أوطانهم كما رأينا فى مصر والجزائر وتركيا قبل ان تحسم خياراتها مؤخرا, بالإضافة إلى مهمتهم الأصلية المتعلقة بالدفاع والأمن وهم ينطلقون فى ذلك من قناعتين : الأولى أنهم أقدرمن المدنيين كافة فى إقامة النظام وتحقيق الاستقرار. الثانية عدم ثقتهم فى فاعلية الجماهير وكفاءتها . ومن اراد المزيد فى هذا المعنى يعود الى مذكرات خالد محي الدين احد ضباط حركة الجيش المصرى فى يوليو 1952 (الآن أتكلم).
معضلة (الجيوش والسلطة) فى الدولة الوطنية الحديثة ودور المؤسسة العسكرية فى القبض على مقاليدها بعد خروج الاحتلال الأجنبى من(أعقد المواجهات التاريخية) التى تشهدها الأمة كلها فى العصر الحديث.. إعادة توجيه
المسار للوجهة الصحيحة ليس مستحيلا، لكنه بالتأكيد سيخضع لسنن التغيير وحركة التاريخ والتدافع والمغالبة على الفرص والمصالح.