قضايا وآراء

رمانة بل قلوب ملآنة بين أمريكا وتركيا

1300x600

لا تشكل "رمانة" موظف القنصلية الأمريكية باسطنبول السبب الأساسي للأزمة السياسية الديبلوماسية الأخيرة، والمستمرة بين أمريكا وتركيا، بل ثمة قلوب "ملانة" تمثل الخلفية والأرضية الأساسية للأزمة أقله من الناحية الأمريكية، حيث بدا ردّ الفعل الأمريكي على اعتقال تركيا لأحد مواطنيها العاملين في القنصلية، وغير المتمتع بالحصانة مفاجىء وغير متناسب ومبالغاً فيه.

 

للتذكير كانت إحدى المحاكم التركية قد أصدرت مذكرة اعتقال بحق المواطن التركي متين طوبوز، الموظف في القنصلية الأمريكية باسطنبول، والذي لا يحمل الجنسية الأمريكية، أو أي جنسية أخرى ولا يتمتع بحصانة من أي نوع بتهمة الانتماء إلى جماعة غولن، والتورط في محاولة الانقلاب الفاشلة والعلاقة مع أعضاء بارزين في الجماعة عن مسؤولين عن الانقلاب العسكري الفاشل صيف العام الماضي، كما الانقلاب القضائي الفاشل في نهاية العام 2013.

 

السفارة الأمريكية بأنقرة ردّت بوقف إصدار التأشيرت منها أو من قنصلياتها العاملة في الأراضي التركية باستثناء تأشيرات الهجرة، وهو ما ردّت عليه تركيا بالمثل عبر سفارتها في واشنطن وقنصلياتها العاملة في الأراضي الأمريكية.

 

لا يمكن تصور أن يتسبب اعتقال الموظف والذي يتمتع بكامل حقوقه القانونية، بما فيها مقابلة محاميه وأسرته بردّ الفعل الأمريكي الحاد والمتشنج، اللهم إلا إذا تم استغلال الحدث للتعبير عن الغضب من المواقف والسياسات التركية الأخيرة. وفي السياق حماية الموظف الآخر بالقنضلية الذي طلبته السلطات للتحقيق فقط، وليس الاعتقال وربما تخشى واشنطن من افتضاح أمر ما يخص علاقة الموظفين بهما وعلاقتها هي مع جماعة غولن، وتالياً مسؤولياتها المباشرة أو غير المباشرة، ولو بالعلم والصمت عن المحاولة العسكرية الدموية الفاشلة العام الماضي.

 

قبل الحديث عن الأسباب أو الخلفيات، لا بد من الإشارة إلى الدور السلبي الذي لعبه السفير الأمريكي المنصرف جون باس، الذي بدا وكأنه ينتمي إلى الحقبة السابقة، بالمعنى الواسع للكلمة، الحقبة التي كانت تنظر فيها واشنطن لأنقرة كتابع عليه تنفيذ ما يطلب منه دون اعتراض أو تحفظ أو حقبة أوباما، حيث الأولوية للانكفاء عن المنطقة، والتحالف غير المعلن مع إيران وميليشياتها والتركيز على الحرب ضد داعش بما في ذلك الاستعانة بإرهابيين مصنفين على لائحة الأمريكية للإرهاب نفسها، ودون أخذ مصالح أو حتى مواقف الحليفة لأنقرة بعين الاعتبار.

 

سياسياً؛ وإذا ما افترضنا أن الأمر تم  فعلاً بناء على تنسيق بين المؤسسات والأجهزة الأمريكية المعنية والفاعلة كما قالت الناطقة باسم الخارجية ، وليس بناء على تقدير السفير الأمريكي باس، فإننا أمام اعتراض أو سعي أمريكي لعقاب تركيا على مواقفها وسياساتها، ويتعلق الأمر بملفات أساسية عدة، من قبيل العلاقة المتنامية مع روسيا على كل المستويات، وتحديداً في السياق العسكري، والتوقيع على اتفاقية المنظومة الصاروخية أس. أس. 400 المضادة للصواريخ والتي عبرت واشنطن صراحة عن التحفظ عليها.

 

ثمة فوقية أمريكية و غربية في التعاطي مع تركيا، واحتياجاتها الاستراتيجية فاليونان مثلاً تملك نفس المنظومة الصاروخية الدفاعية الروسية،  دونما اعتراض من واشنطن، أو من حلف الناتو، علماً أن دول غربية عدة رفضت تزويد تركيا باحتياجاتها الدفاعية الصاروخية، أو حتى بالتقنية اللازمة كى تصنع هي احتياجاتها بنفسها.

 

سياسياً؛ أيضاً نحن أمام امتعاض أمريكي من التقارب الأخير بين أنقرة وطهران، رغم التصعيد الأمريكي الأخير ضدها. وهنا أيضاً ثمة فوقية أمريكية التي قررت زمن أوباما، وحتى زمن بوش الابن، التعاون والتفاهم مع طهران على اقتسام النفوذ في المنطقة، والآن عندما رأت أن طهران تجاوزت أو تغطرست، تريد إرجاعها إلى حجمها وحدود قوتها الفعلية، دون اعتبار للمصالح التركية والعلاقات والجغرافيا السياسية، والأهم أن أنقرة كانت متحفظة دوماً على السياسات العدائية والحصار تجاه إيران. كما على اقتسام المنطقة معها بغض النظر عن المصالح والمواثيق والمعاهدات الدولية.

 

سياسيا أيضاً، أعتقد أن ثمة تحفّظ أو رفض أمريكا للانتشار التركي في محافظة إدلب السورية، رغم الترحيب والدعم العلني اللفظي، علماً أن جوهر الموقف الأمريكي، كما كان الحال في عملية درع الفرات هو الرفض وعدم الارتياح لدفاع تركيا عن مصالحها، بعيداً عن الخطوط الأمريكية والسياسات القائمة على مواجهة وعلاج عارض داعش دون التنبه أو الالتفات لأصل المرض المتمثل بنظام بشار الأسد فى الشام و سياسات حكومة المنطقة الخضراء الطائفية فى بغداد.

 

تركيا من جهتها لم تتعمد التحرش أو استفزاز السلطات أو الإدارة الأمريكية، هي دافعت عن سيادتها وحقها السيادي في التعاطي مع مواطنيها وفق القانون التركي وعملية ملاحقة أعضاء جماعة غولن مستمرة وعلى كل المستويات، وتكشف حقائق جديدة يوماً بعد يوم، وأن تصدر محكمة أمر اعتقال بحق مواطن تركي أو طلب آخر للتحقيق، هو أمر قانوني تماماً وطبيعي جداً، وما كان لواشنطن أن تتحفظ أو حتى تتحسس من الحدث.

 

في السياقات الأخرى، لم تتعمد أنقرة أبداً استفزاز واشنطن أو فتح جبهة أو جبهات معها، بل هي تحافظ تدافع عن مصالحها الحيوية وأمنها القومي، كما يفترض بأي حكومة ديموقراطية منتخبة ومسؤولة، وهي طلبت منظومات دفاعية صاروخية من الحلف ومن دول غربية أكثر من مرة، كما طلبت التقنية العملية اللازمة لتصنيعها، وهو ما لم يحدث، وهي احتفظت دائماً بمواقف مستقلة قائمة على فهمها وقناعاتها بمصالحها في الملفين الروسي والإيراني، حيث رفضت مثلاً الانخراط في العقوبات الغربية ضد موسكو على خلفية قرارها بضم القرم، مع تأكيدها على موقفها المبدئي من الضم غير القانوني أو الشرعي، وهي رفضت سياسة الحصار والتهديد بالخيار العسكري ضد إيران وملفها النووي، ودعت للحوار، كما رفضت التفاهم أو محاولة واشنطن وطهران لاقتسام النفوذ في المنطقة على حساب دولها وشعوبها.

 

وفي سوريا تحديداً دعت أنقرة واشنطن ومنذ بدايات الثورة إلى إقامة منطقة آمنة لحماية اللاجئين، وردع النظام وخلق بيئة مناسبة لتشكيل قوة عسكرية مقاتلة موحدة، حتى قبل ظهور داعش وحتى بعد ظهور التنظيم أصرت تركيا دائماً على محاربة أصل المرض، وليس العرض فقط، بينما ذهبت واشنطن باتجاه محاربة التنظيم فقط، مع غض الطرف عن بقاء النظام ومع الاستعانة بإرهابيين لمحاربة إرهابيين بكل ما لذلك من آثار استراتيجية سلبية وهائلة على سورية والمنطقة. ناهيك عن تأثيره السلبي والمباشر على الأمن والمصالح القومية التركية.

 

في عملية درع الفرات كما في عملية إدلب وضعت أنقرة واشنطن تحت الأمر الواقع، ودافعت عن مصالحها المتماهية والمتطابقة إلى حدّ بعيد مع مصالح الشعب السوري وممثليه الحقيقيين، وأفشلت محاولات التقسيم التي تدعمها واشنطن بشكل مباشر أو غير مباشر، كما فرضت نفسها لاعباً لا يمكن الاستغناء عنه أو تجاهله هادمة السياسة الأمريكية التي تصر على رسم قواعد اللعبة، وعلى توزيع الأدوار وفق مصالحها وأهوائها.

 

عموماً، عاجلاً أم آجلاً سيتم تجاوز الأزمة السياسية والديبلوماسية الحالية، لأن ثمة علاقات مصالح وحاجات ما زالت حاضرة وضاغطة بقوة، ولكن بالتأكيد فإن مبدأ أو أمر التحالف الأمريكي التركي بات على المحك ومثار شك تماماً كما قال الرئيس رجب طيب أردوغان منذ أيام.

 

باحث وإعلامي فلسطيني