القاموس السياسي العربي الرسمي، حابل بعبارات كثيرا ما تخالف معانيها لفظها، والدراج من تلك المعاني، لأنها تستخدم إما للتضليل، أو لإسكات وتحييد وتدجيم من يعارضون الحكومات، أو ينتقدونها ولو على خفيف.
ولو سمعت مسؤولا حكوميا يصم فردا أو شريحة من المواطنين بـ"الخروج عن تقاليدنا وتعاليم ديننا"، فاعلم أن الموصوم/ الموصوف بذلك، قال قولا أو أتى فعلا أحرج الحكومة أو كشف عوارها وعورتها، ذلك أن المسؤولين عندنا لا يعتبرون نهبهم للمال العام خروجا على التقاليد ومخالفة لأحكام الشرع.
ولو نشرت صحيفة صورة حقيقية، غير فوتوشوبية، لمسؤول حكومي رفيع ورقيع، وهو يجالس الحسان الكاسيات العاريات في ناد أحمر أوربي (وهذا لا تجسر عليه إلا صحيفة إلكترونية عربية يقيم محرروها في القطب الشمالي ويصدرونها من هناك)، فإن كورال السلطان وحاشيته -وليس المسؤول نفسه- من يقوم باتهام الصحيفة بالفجور، والإعلام العربي به كتائب ضاربة من المرتزقة، الذين يسبحون بحمد أصحاب السعالي (يجمعون بين السعادة والمعالي)، وفي هذا تقول العرب: رمتني بدائها وانسلّت.
و"المساس بالوحدة الوطنية"، تهمة يتم إلقاؤها بمجانية في وجوه معارضي الحكم في الدول العربية، التي لم تعرف معظمها الوحدة الوطنية بمعناها الاصطلاحي المتعارف عليه، ومعظم المستهدفين بذلك الاتهام، هم المطالبون بحقوق تعتبر من البدهيات في البلدان التي تحترم ابن آدم.
والعمالة لجهات أجنبية أمر تحتكره الحكومات، ولكنها ترمي به من يعارضون سياساتها وممارساتها، فلو قال شخص ما إن الجسر الذي تم افتتاحه مؤخرا لم يكلف أكثر من خمسة عشر مليون دولار، في حين أن مخصصاته في الميزانية كانت واحدا وخمسين مليون دولار، فإن مثل هذا الشخص يوصف بأنه عميل للصهيونية.
ففي فقه السياسة العربية، فإن العمالة التي تمارسها الحكومات للصهيونية أو الولايات المتحدة أو حتى بوركينا فاسو، حق غير معلن لتلك الحكومات، وكلما ركع الحكام لغير الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، فإن ذلك يُبرر بتعزيز العلاقات مع الدول "الصديقة".
وبسبب التلقين الببغاوي، صار المواطن العربي نفسه يحسب أن الإشارة لأي دولة عربية غير بلده بـ"الشقيق/ الشقيقة" سنة مؤكدة، وصارت الكلمة ورصيفتها "وطني الثاني" واسعة التداول، وحتى مباريات كرة القدم بين منتخبي بلدين عربيين تكون بين شقيقين، وتكون المباراة كلها ركلا متعمدا بالشلوت وقبضات اليد، ثم تنتهي بجمهور المشجعين ينهال على الفريق "الشقيق" بالطوب والزجاجات الفارغة.
وكما أن وزير الدعاية في ألمانيا النازية جوزيف غوبلز، كان يتحسس مسدسه كلما سمع بكلمة ثقافة، فإن المواطن العربي يضع يده على فمه كلما سمع كلمات مثل تنمية ورفاهية وعدل ومساواة.
فلو شوهد وهو يضحك على تلك المفردات، سيلقى معاملة تجعله عاجزا حتى عن الكلام لحين طويل من الدهر، ويقول الكاتب اليمني الساخر عبد الكريم الرازحي إنه كلما سمع المواطن العربي كلمة "رخاء" تتردد على لسان مسؤول حكومي، عليه أن يدرك أن المعنى الحقيقي لها، يكون بتبديل موقعي حرفين منها.
وهناك عبارة أرجو أن يعينني الإعلاميون العرب على فهمها، لأنها تتردد أيضا على ألسنتهم وعبر أقلامهم كثيرا، كلما اجتمع زعيم عربي بآخر عربي أو غربي: ناقشا القضايا ذات الاهتمام المشترك، فهل الكلمتان الأخيرتان "الاهتمام المشترك" تعودان للقضايا كما يقتضي البنيان اللغوي للعبارة، وتكون القضايا بذلك كائنا طبيعيا حيّا، أم تعود لصاحبي الفخامة والضخامة؟
ثم لماذا لا يفصح قادتنا عن القضايا التي كانت محل اهتمامهم هم وضيوفهم؟ وما هي القضايا ذات الاهتمام المشترك بين -مثلا- السودان وموريتانيا، والكويت ونيجيريا، وهولندا وتونس؟
الفضيحة هي أن بعض قادتنا الذين يثقبون آذاننا بأنهم يحكموننا فقط بما يرضي الله، ونواميس السماء، ويحضوننا على التمسك بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، يتعاملون مع القرآن الكريم، بنفس طريقة تعاملهم مع الشوكولاتة المشكّلة: اللي بالفستق أحلى من اللي بنكهة القهوة، والشوكولاتة البيضاء تسبب الأمراض، فيختارون من كتاب الله الآيات التي تحض على طاعة ولي الأمر، مع أن ولي الأمر قد يكون حاكما بـ"أمْرِهِ".
ويا ويلك وظلام ليلك لو قرأت جهرا في صلاة جماعة: ألَم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين * كذلك نفعل بالمجرمين * ويل يومئذ للمكذبين.
ففي نظر ولاة الأمر، فإن هذه الآيات تقال للتحذير من مصائر القادة الذين طاروا في عام 2011، ويعتبرونها بالتالي إنذارا شخصيا لهم، وتمهيدا لثورة أو انتفاضة! خصوصا لو ختمتها بـ"صدق الله العظيم".
النكاية كسياسة: دول الخليج وإقليم كردستان العراق!