شهد عام 2017 مظاهر واتجاهات انفصالية حادة شملت العديد من الحالات، كما كانت هناك حالات أخرى سابقة تلح على دول كثيرة، منها رغبة إقليم كيبيك في كندا الاستقلال عن كندا ذات الثقافة البريطانية، وهو الإقليم بثقافته الفرنسية، كذلك يحاول سكان أسكتلندا في بريطانيا أن يستقلوا عن بريطانيا العظمى.
أما في إسبانيا، فإن إقليم الباسك يحارب منذ مدة لإعلان الانفصال عن إسبانيا، كذلك أعلن إقليم كتالونيا في تشرين الأول/ أكتوبر 2017 نتائج الاستفتاء الذي واجهته الحكومة المركزية في مدريد بتطبيق المادة 155 من الدستور الإسباني، والتي تنهي الحكم الذاتي للإقليم وتباشر حكمه بقرارات من الحكومة المركزية، مع تجميد مؤسسات الحكم الذاتي؛ وفقا للدستور.
حق تقرير المصير هو حق معترف به في القانون
الدولي ولكن مختلف على نطاقه وتفسيره
وفي أوروبا أيضا،
أعربت بعض الأقاليم في إيطاليا، خاصة في الشمال، عن رغبتها في الانفصال وتكوين دولة مستقلة عن إيطاليا. وبعد انتخاب الرئيس ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية، ظهر اتجاه قوي في ولاية كاليفورنيا، أكبر الولايات الأمريكية الخمسين، يطالب بالاستقلال عن الاتحاد الأمريكي لأسباب متعددة.
أما في العالم العربي، فقد تم فصل
جنوب السودان عن جمهورية السودان ولكن باتفاق بين الحكومة السودانية والمتمردين، حيث تم إجراء استفتاء في جنوب السودان حول الاستقلال أو البقاء جزءا من السودان، وقد اختار الجنوبيون الانفصال.
أما آخر حلقات هذه الظاهرة، فهو إجراء
استفتاء في الإقليم الكردي شمال العراق أواخر أيلول/ سبتمبر 2017، حيث اختار الشعب الكردي الاستقلال عن العراق، وقد ردت الحكومة العراقية، مثلما فعلت الحكومة الإسبانية، بتطبيق
الدستور؛ لأن الاستفتاء يتناقض مع الدستور ومع حكم المحكمة العليا العراقية، بل إن الجيش العراقي قرر إنهاء مظاهر الاستقلال بالقوة في المناطق الكردية، ودخل في صدام مسلح مع قوات البشمركة الكردية.
كل هذه الحالات رفعت شعار حق تقرير المصير، وهو حق معترف به في
القانون الدولي، ولكن مختلف على نطاقه وتفسيره. وقد أشرنا في مقاله سابقة إلى أن الحق استخدم تاريخيا لتفتيت الدول، فقد تم استخدامه ضد الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، كما استخدم بعد الحرب العالمية الثانية كأداة ضد الاستعمار الغربي ولتحرير الشعوب المستعمرة، كما استخدم ضد النظم العنصرية التي قام الأجانب في تلك الدول باستعباد الأغلبية من شعوبها، وقد حدث ذلك في جنوب إفريقيا وفي روديسيا الجنوبية (زيمبابوى الآن).
حق تقرير المصير استخدم تاريخيا لتفتيت الدول كما استخدمت
ضد النظم العنصرية التي استعبد فيها الأجانب الأغلبية من السكان
وقد استخدم الغرب حق تقرير المصير لتفكيك الاتحاد السوفييتي، وكان حق تقرير المصير للأقليات القومية والدينية والعرقية، مما أدى أيضا إلى تفكيك الاتحاد اليوغسلافي.
وعندما مارس الصرب مختلف أنواع الجرائم ضد
إقليم كوسوفو، الذي كان ضمن الاتحاد اليوغسلافي ويتمتع بالحكم الذاتي، فإن الولايات المتحدة تصدت لجمهورية الصرب وفرضت حظرا جويا عليها بالتعاون مع دول الناتو، بل وجلبت رئيسها ميلوسوفيتش إلى المحاكمة أمام محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة في لاهاي، كما أن الصرب قاوموا استقلال الجمهوريات الأخرى المشكّلة للاتحاد اليوغسلافي، ومن بينها البوسنة والهرسك التي قاومت جرائم الصرب، وفشلت القوات الدولية في حماية المسلمين من المذابح قبل تطبيق اتفاق دايتون عام 1996.
وقد أصدرت محكمة العدل الدولية رأيا استشاريا في 22 تموز/ يوليو 2010 بناء على طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد إعلان الحكومة المؤقتة في كوسوفو الاستقلال، وهي حكومة نشأت بموجب ترتيبات وردت بقرار مجلس الأمن رقم 1244. وكانت المسألة تتعلق بمدى توافق القانون الدولي مع هذا الإعلان، وقد قررت المحكمة أن الإعلان لا يتناقض مع قرار مجلس الأمن، وأنه لذلك لا يخالف هذا الإعلان القانون الدولي.
أثار قرار المحكمة جدلا لأنه انطلق من فكرة أن قرار مجلس الأمن
هو القانون الدولي أو هو جزء من القانون الدولي
وقد أثار هذا الرأي جدلا واسعا في الفقه الدولي؛ لأن هذا الرأى اقتصر فقط على مدى انسجام هذا الإعلان مع قرار مجلس الأمن، وانطلق من فكرة أساسية ليست موضع قبول بين شراح القانون الدولي، وهي أن قرار مجلس الأمن هو القانون الدولي أو هو جزء من القانون الدولي.
ونحيل المتخصصين في هذه النقطة إلى الجدل الذي شهدته محكمة العدل الدولية بين القاضي الهولندي والقاضي الأمريكي؛ في قضية لوكربي التي رفعتها ليبيا ضد الولايات المتحدة. وكان مفصل النزاع هو ما إذا كان مجلس الأمن يصنع القانون الدولي بقراراته، أم أنه ملتزم بالقانون الدولي والميثاق وهو يصدر هذه القرارات. وكانت تلك هي المرة الأولى التي لم يتوقع فيها واضعو الميثاق التي يحدث الصدام فيها بين مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية. وكلا الجهازين منوط بحفظ السلم والأمن الدولي؛ كل حسب اختصاصه.
حق تقرير المصير يجب أن يدرس في ضوء مبدأ
أساسي في القانون الدولي، وهو مبدأ بقاء الدولة
ومن الواضح أن حق تقرير المصير يجب أن يدرس في ضوء مبدأ أساسي وأهم في القانون الدولي، وهو مبدأ بقاء الدولة (survival of the State) الذي يتقدم جميع مبادئ القانون الدولي، فإن كان تطبيق حق تقرير المصير يؤدي إلى فناء الدولة أو الإضرار الجسيم بوجودها، وجب الانحياز إلى مبدأ بقاء الدولة.
وفي الدول المتخلفة يزعم النظام أنه الدولة، وأن بقاءه أهم من انتهاكات حقوق الإنسان التي تكون عادة ثمنا لبقاء النظام. ولذلك، كانت النظم المستبدة سببا في المآسي التي عاناها الأكراد، والزج بالأكراد في الصراعات الإقليمية بين العراق وسوريا وتركيا وإيران في فترات مختلفة.
كانت النظم المستبدة سببا في المآسي التي
عاناها الأكراد، والزج بالأكراد في الصراعات الإقليمية
وفي الأحوال التي ذكرناها، باستثناء حال جنوب السودان، فإن الدستور هو الذي يحتكم إليه في معالجة هذه المشكلة. وفي هذه الحالة، فإن القانون الدولي يدعم سلطة الحكومة المركزية والإطار الدستوري، ويكون لدى الحكومة المركزية سلطة تقديرية واعتبارات المواءمة السياسية؛ لأن التصدي للانفصال قد تكون نتائجة أفدح على بقاء الدولة من الانفصال نفسه. ولذلك، فإن ظروف إقليم كردستان العراق تتماثل تقريبا مع حالة كتالونيا، حيث أعلنت الدول المجاورة رفضها للانفصال، مما يعطى سندا قويا للحكومة المركزية في معالجة الموقف.
صحيح أن وجود الإقليم داخل دولة واحدة قد تم ربما لأسباب تاريخية أو لأسباب قانونية يعكسها الدستور، ولكن لا بأس أن تعيد هذه الأقاليم التفاوض مع الحكومة المركزية حول أوضاعها ومشاكلها، خاصة إذا كان النظام الديمقراطي الذي يستند إلى الأغلبية لا يضع في اعتباره مطالب الأقاليم المضرورة التي ثارت المشاكل بشأنها لمدد طويلة، مثل كاتالونيا والإقليم الكردي.
لا بأس أن تعيد الأقاليم التفاوض مع الحكومة المركزية حول أوضاعها
والنموذج الديمقراطي هو الحل لهذه المشكلة في العالم العربي
أما كردستان والسودان والأقاليم العربية، فإن الاستبداد في هذه الدول هو المسؤول، لكنه يفسر ولا يبرر طلب الانفصال. ولذلك، فإن النموذج الديمقراطي هو الحل لهذه المشكلة في العالم العربي. أما في أوروبا، فقد لاحظنا أن الحكومة المركزية في مدريد قد حرصت تحت حكم الجنرال فرانكو على السلامة الإقليمية للدولة، واتخذت موقفا عنيفا ضد الانفصال؛ وصل إلى حد إعدام قائد الانفصال عام 1940 أثناء الحرب العالمية الثانية. ويبدو أن الوعي العرقي لم يتغير في كاتالونيا من الحكم المستبد إلى الحكم الديمقراطي.