مثل تصريح الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، السيد عبد اللطيف الزياني، الثلاثاء، صدمة متوقعة لأغلب الملاحظين والمراقبين على الساحة الخليجية خاصة، والعربية عامة. التصريحات صادمة لأنها تلغي كل شروط الاستقلالية لهيكل رسمي جُعل أساسا من أجل فض النزاعات البينية بين الدول الخليجية بطرق سلمية. إذ تعكس اصطفافا معلنا مع طرف دون آخر، وهي كذلك متوقعة؛ لأنها تعكس الموقف الدائم للهياكل الرسمية العربية، بما هي أبواق خارجية للنظام الاستبدادي في سلوكاته المختلفة، خاصة بعد الصمت الطويل الذي انتاب المنظمة الرسمية الأبرز خليجيا؛ في خضم أزمة عاصفة.
تعكس تصريحات الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي اصطفافا معلنا مع طرف دون آخر
تصريحات السيد الزياني نقلها إعلام دول الحصار، ومفادها أنه يستنكر "الهجوم الذي تشنة دولة قطر على بقية دول مجلس التعاون". أي أن دولة قطر "ذات المساحة التي لا تكاد ترى على الخارطة"، كما يقول أعداؤها، والتي تضم ما يقارب 300 ألف مواطن قطري، تهاجم دولا يفوق تعداد سكانها 120 مليون نسمة!
ما يستفاد من تصريحات المسؤول الأول عن المؤسسة الخليجية الرسمية الأولى؛ هو أنه يقف إلى جانب الدول التي أعلنت حصارا جائرا على دولة عربية مسلمة في شهر رمضان، وقطعت إمدادات الدواء والغذاء وحليب الرضع؛ على حاضنة جغرافية صغيرة بحجم قطر، بإغلاق المعبر البري الوحيد الذي يربطها باليابسة.
تضع قطر شروطا للحوار، ولم ترسم سقفا للصلح؛ غير احترام السيادة القطرية
المواقف الرسمية لدولة قطر، والتي عبر عن آخرها أمير البلاد، بما هو السلطة العليا للدولة، أو تلك التي ترجمها وزير الخارجية خلال مختلف اللقاءات التي عقدها في الداخل والخارج، تعكس استعدادا مطلقا للحوار، ويدا ممدودة لخفض التصعيد والسعي إلى المصالحة. لم تضع قطر شروطا للحوار، ولم ترسم سقفا للصلح؛ غير احترام السيادة القطرية وعدم المس بالأمن القومي للدولة وحدودها الترابية أو قراراتها الوطنية.
هذه المواقف الرسمية، بما فيها تصريحات وزير الخارجية السابق الشيخ حمد بن جاسم، تنسف كل الادعاءات التي عبرت عنها دول الحصار وأبواقها الإعلامية منذ مدة، وتلك التي ختمها الأمين العام لدول مجلس التعاون الخليجي؛ بوضع الضحية مكان الجاني ووضع الجلاد في مرتبة الضحية.
مجلس التعاون الخليجي هو واحدة من المؤسسات العربية الرسمية التي رأت النور من أجل تفعيل التعاون بين الدول الأعضاء التي تعد الأغنى عربيا ومشرقيا. المجلس آلية لتنسيق مواقف الدول الأعضاء حول القضايا الإقليمية والدولية، وهو يهدف في النهاية إلى حماية سلامة مجتمعات الدول التي يغطيها. عرف المجلس محاولات كثيرة للانصهار والاتحاد، لكنها باءت بالفشل، مثل تجربة الوحدة النقدية التي ختمت بفشل ذريع كشف حجم التناقضات بين الدول الأعضاء.
تُذكر لتاريخ المجلس إنجازات كبيرة يمكن الحديث عنها أو تعدادها، بل هو، كغيره من المؤسسات العربية الرسمية
من جهة ثانية، لا تُذكر لتاريخ المجلس إنجازات كبيرة يمكن الحديث عنها أو تعدادها، بل هو، كغيره من المؤسسات العربية الرسمية، ليس إلا واجهة للإيهام بالعمل المشترك وبالتنسيق والتعاون؛ في الوقت الذي مرت كل الحروب التي دمرت الأمة عبر هذه المؤسسات، بدءا باحتلال العراق وحروب الخليج وصولا إلى ذبح الثورات العربية وحصار قطر.
حصار قطر هو واحدة من أخطر الأزمات التي عرفتها الأمة، وهي الأزمة التي تهدد بتفكك ما بقي من نسيجها الحضاري بعد سقوط الحواضر الكبرى، مثل العراق وسوريا، بفعل الحرب، وسقوط حواضر أخرى بفعل الفساد والانقلاب، مثل مصر والجزائر.
إن أهم أدوار مجلس التعاون هو تنسيق العمل المشترك لدوله الأعضاء. وفي البيان التأسيسي للمجلس يوجد هيكل كامل مهمته فض النزاعات بين الدول الأعضاء؛ هذا الهيكل لم يفعّل خلال الأزمة الأخيرة، وهو ما يؤكد أنه هيكل صوري ليس من وظيفته فض النزاعات، إنما وظيفته الأساسية هي الإيهام بالفعل وبالعمل المشترك.
منذ أزمة الخليج الأخيرة وإعلان حصار دولة قطر؛ اختفى الأمين العام لدول مجلس التعاون، واختفى معه المجلس برمته، ولم نكد نسمعه له صوتا في خضم أزمة خانقة تعصف بالدول التي يمثلها المجلس وأمينه العام، والتي كادت تتحول إلى حرب وغزو وتغيير للنظام بالقوة العسكرية، كما صرح بذلك أمير دولة الكويت خلال لقاءاته الأخيرة. اليوم تحول المجلس إلى جزء من الصراع الدائر، بعد تصريحات أمينه العام، أي أنه صار جزءا من المعركة نفسها وطرفا فيها. الصدمة الحقيقية لم تكن في الصمت المتواطئ الذي اختاره المجلس خلال خمسة أشهر من عمر الأزمة، بل الصدمة الكبيرة تمثلت في تصريحات أمينه العام التي تناقض الدور الذي جعل له المجلس وأمينه العام.
كشفت الأزمة أن المجلس مؤسسة غير مستقلة
كشفت الأزمة أن المجلس مؤسسة غير مستقلة عن القرار السياسي، وغير مستقله عن التجاذبات التي تعصف بالمنطقة، وغير مستقلة عن الأجندات التي تعدّ للمنطقة ولشعوبها، وهو ما يجعل منها اليوم أداة تعمل ضد مصالح الأمن الإقليمي لمنطقة الخليج نفسها. لكن من ناحية أخرى، لا يمكن أن نطالب مؤسسة رسمية عربية صنعها النظام الرسمي العربي الفاسد نفسه؛ بالنزاهة والحياد، وهي التي وضعت أركانها ضد النزاهة ومع الفساد، بل هي جاءت لتشريع الفساد والتمكين للاستبداد، والتشريع لجرائم النظام الرسمي العربي في حق المنطقة وفي حق شعوبها.
لم تقف المؤسسات الرسمية العربية يوما إلى جانب الشعوب العربية، ولا إلى جانب المستضعفين في الأرض، رغم كل الجرائم التي ارتكبت في حق الأمة. وليس ما يحدث في حق شعب سوريا اليوم، وفي حق الأبرياء في ليبيا وفي العراق وفي اليمن؛ إلا خير دليل على أن المؤسسات الرسمية العربية مؤسسات مشبوهة، بل هي مداخل استعمارية للتمكين لكل المشاريع التي تهدف إلى تفكيك ما تبقى من البناء الحضاري للأمة.
المسكوت عنه في تصريحات مجلس التعاون الخليجي هو حجم الكشف الذي رافق تغطيات قناة الجزيرة الأخيرة، وقد عرّت كمّا هائلا من الملفات التي كانت القناة تتحاشى الخوض فيها؛ احتراما للإخوة الجيران وسعيا للنأي بالنفس عن الاحتقان الاقليمي.
تفاعلات الأزمة تؤكد أن مجلس التعاون قد دق بنفسه آخر المسامير في نعشه
أمير دولة قطر صرّح خلال لقائه الأخير مع إحدى القنوات الأمريكية أنه لا سبيل إلى إغلاق قناة الجزيرة، وأن دولة قطر لن ترضى بإغلاق منبر إعلامي حر. هذا القرار هو الذي أخرج في نظرنا الأمين العام لدول مجلس التعاون عن صمته؛ لأن القرار إعلانٌ بأن القناة ستواصل تغطية الملفات والأخبار العربية بالموضوعية ذاتها، بل وبشكل أكثر جرأة، بعد أن رفع عنها الحصار الجائر كل التحفظات وكل الحرج من الخوض في ملفات حساسة ومصيرية لمستقبل الوعي العربي.
إذا كانت حرب الخليج في 2003 وما بعدها ثورات الربيع العربي في 2011؛ قد أعلنت نهاية جامعة الدول العربية التي ظهرت جزءا أصيلا في البناء الاستبدادي للدولة العربية، فإن حصار قطر قد كشف النقاب عن المصير نفسه لكيان رسمي آخر؛ هو مجلس التعاون الخليجي. صحيح أن قطر أكدت دائما أنها تأمل بحل الأزمة داخل المجلس، وهي التي باركت مبادرة أمير الكويت منذ انطلاقها، لكن تفاعلات الأزمة ومكابرة دول الحصار؛ تؤكد أن مجلس التعاون قد دق بنفسه آخر المسامير في نعشه.