أتكلم هنا للمقال الثاني على التوالي، عن العرب الذين سطروا أسماءهم بأحرف من نور على اللوحة "العالمية"، وباتوا أعلاما لأنهم اخترعوا واكتشفوا أشياء مثلت إضافات مهمة في حياة بني البشر عموما، أو أنتجوا فكرا تهتدي به البشرية.
وتحقق لهم ذلك، لأنهم هاجروا من "بلاد العرب أوطاني"، فكما هاجر الأنبياء بأديانهم وحققوا بذلك فتوحات كبرى، فإن خيرة العقول العربية هاجرت إلى مناخات تسمح لها بأن تتفتح، فصار العرب الصامدون في الحظائر، يتباهون بهم، بعد أن ظلوا يقتاتون على منجزات المراحيم (جمع مرحوم) الذين فنوا قبل قرون.
العقل العربي يستطيع أن يبدع ويكتشف ويخترع، إذا عاش في مناخ يسمح له بالنمو والتجريب والوقوع في الخطأ، ثم النهوض من الكبوة، والبيئة السياسية هي التي تمنع ذلك العقل من إنجاز أي شيء ذي بال، لأن السلاطين يتحسسون سيوفهم إذا سمعوا بعبارة الفكر الحر، ومن ثم يصممون مناهج تعليمية، لا تسمح ولا لزهرة واحدة بأن تتفتح.
التحق الروائي الطيب صالح في جامعة الخرطوم، في عصر كانت فيه تلك الجامعة توأم جامعة كيمبريدج البريطانية، فقد كان الدخول فيها بموجب شهادة كامبريدج للمرحلة الثانوية، ولكنه أحس بأن البيئة العامة في بلاده لا توفر لملكاته الإبداعية مناخا تورق فيه وتزهر، فهاجر وهو دون العشرين إلى بريطانيا.
التحق الطيب صالح بإذاعة "بي بي سي"، وصعد نجمه فيها حتى صار مسؤولا عن الإنتاج الدرامي فيها، بعد أن صار موسوعي المعرفة في مجال الآداب، ثم كتب مجموعة قصص قصيرة، وظهر أول إنتاج أدبي له في مجلة إنكاونتر البريطانية بالإنجليزية (دومة ود حامد Wad Hamid’s Dome Tree).
(كانت هناك نسخة عربية لإنكاونتر، تحمل اسم "حوار" يحررها الشاعر توفيق صايغ، ويجمع الكثير من النقاد أن تلك المجلة هي التي وضعت بيروت في مركز القلب في خارطة الأدب والفكر العربي، وأغلق صايغ المجلة بعد أن ذاع أمر أنها ممولة من قبل جهاز المخابرات المركزية الأمريكية).
وبعد أن بات الطيب صالح معروفا كأديب مقتدر في بريطانيا بنحو خمس عشرة سنة، سمع به بعض القراء العرب، ثم انهالت عليه الألقاب وعلى رأسها "الروائي العربي الأول"، ويبدو أنه فاز بتلك الأولوية لأن روايته موسم الهجرة إلى الشمال تُرجمت إلى 27 لغة.
رقص بنو السودان طربا، لأن الزول صار نجما روائيا عالميا، ثم مديرا إقليميا لمنظمة اليونسكو، متناسين أنه أنجز ما أنجز بعد أن صار بريطانيا، وبعد أن فتحت له المكتبات والمنابر في بريطانيا أبوابها، ووجد في بريطانيا كنوز المعارف العربية والإسلامية.
ولو بقي في السودان، لربما كان سيفوز بعمود في صحيفة، لا يتجاوز نطاق توزيعها الخرطوم الكبرى.
عندما ذاع صيت الطيب صالح كإعلامي، استقدمته وزارة الإعلام السودانية ليصلح حال إذاعة البلاد، وكان أن عكف على تدريب شباب الإعلاميين، وتعديل خارطة برامج الإذاعة، وكان أهم قرار استصدره من وزير الإعلام، هو الكف عن سخف إذاعة أسماء الموتى هنا وهناك، وأماكن تلقي العزاء فيهم في نشرة أخبار راتبة في الثامنة من مساء كل يوم.
وصارت نشرات أخبار الإذاعة السودانية خالية من النكد والغم، إلى أن توفي قيادي كبير في حزب سياسي كان شريكا في الحكم، فجاءت أوامر عليا للإذاعة ببث خبر الوفاة في نشرة الثامنة مساء.
فخرج الطيب صالح من السودان مجددا ولم يعد بعدها إلا كزائر عابر.
والطيب صالح يستأهل أن يتباهى به العرب والبريطانيون، ولكن مركب النقص عندنا بلغ حد البله مع حكاية الصبي أحمد محمد (14 سنة)، الذي دخل حجرة الدراسة في مدرسة أمريكية، حاملا حقيبة بها شيء يتكتك، فأصاب معلمة الصف الذعر، لأنها اشتبهت في أن ما بالحقيبة -ربما- قنبلة، واتصلت بالشرطة التي أقامت الدنيا بالمتاريس الواقية من الانفجارات، واستجوبت أحمد، ثم أفرجت عنه بعد سويعات قليلة بعد أن اتضح ان الشيء الذي كان يتكتك في حقيبة الصبي ساعة رقمية.
المعلمة تلك، أبلغت عن الحقيبة المشبوهة، لأن حملات التوعية الأمنية بمخاطر الإرهاب تقضي بذلك، ولكن الإعلام العربي المصحصح اعتبر تصرفها ثم تصرف الشرطة كيدا، ومحاولة لقبر عبقرية عربية.
ولو كتبت اسم الصبي مصحوبا بعبارة "مخترع الساعة"، في محرك البحث غوغل، ستجد أكثر من 45000 عنوان، معظمها فواصل ردح في الحكومة الأمريكية، وستجد فيها هنا وهناك عبارات من شاكلة "العبقري/ الطفل المعجزة".
وكان أهل السودان أكثر الشعوب طربا ثم جزعا لحكاية أحمد، "الولد السوداني الذي اخترع ساعة"، فأحمد الذي اخترع ما هو مخترع سلفا منذ قرون، سوداني "الأصل"، وحتى لو كان قد أتى بأمر جديد فقد فعل ذلك بوصفه أمريكيا، وأعاد تجريب ما هو مجرّب لأن المنهج المدرسي يفرض على التلاميذ في المدارس أن يقوموا بعمليات تصميم هندسية أو تكنولوجية أو فنية.
ما يحملنا على التباهي بإنجازات أناس صاروا محل تقدير العالم كله، وهم يحملون جنسيات شعوب لا نلتقي بها إلا عند آدم وحواء، هو أنه ليس في محيطنا المباشر إنجاز يبرر التباهي.
وعندما يهرب بعضنا بعقولهم إلى الغرب والشرق (كارلوس غصن الذي أنقذ شركة نيسان لصناعة السيارات من الانهيار، وجعلها عالية الربحية، برازيلي، ولكن أوساط المال والأعمال العربية، ترده إلى جذوره اللبنانية).
المهم، عندما يهرب جماعتنا إلى مختلف البلدان، ويبزّوا علماءها ومفكريها، نقول: "بس هم أصلا عرب". فالمهم عندنا أن يكون لدينا ما يشبع غريزة حب الفشخرة.
زار أحدهم الشاعر الأموي جرير بن عطية في بيته وسأله عن أشعر العرب، فاقتاده جرير إلى حظيرة أغنام، وأشار إلى رجل طاعن في السن، يرتشف اللبن من ضرع معزة "مباشرة"، وقال له ما معناه: إن شاعرا يفخر بمثل هذا الأب، ويفحم شعراء جزيرة العرب قاطبة لهو أشعر العرب.
يحق لجرير أن يتباهى بما أنجز هو، ورحم الله الشاعر:
زمان تولى كان فيه جدودنا/ ليوثا يقودون الخميس العرمرما
إذا ابتسموا فالخلد في وجناتهم/ وإن عبسوا فالكون صار جهنما
والشاهد في البيتين أعلاه "تولى" فالجيش العرمرم (الخميس) صار فطيس، في عصر الاستجارة بترامب وديفيد صاحب الـ"كامب".