السعودية الوهابية.. إلى أين؟

ليس هدفنا الأساسي في هذا المقال تقديم عناصر تصلح لبناء قراءة استشرافية لمستقبل المملكة السعودية، وليس هدفنا أيضا أن يكون سؤال النهايات الممكنة (إلى أين؟) مدخلا لإعادة قراءة البدايات الملتبسة والمتعددة للمملكة السعودية "الوهابية"، كما أن هدفنا ليس بيان أنّ "وهابيتنا" في تونس (أتباع عبد الوهاب عبد الله) هم أكبر حلفاء "وهابيتهم" (أتباع محمد بن عبد الوهاب أو الحصن المتقدم و"المُعولم" للدفاع عن العرش السعودي) والذراع السعودي- الإماراتي الضارب في بلاد "النمط المجتمعي التونسي"، وما يؤسسها من أساطير تأسيسية "وطنية" في الظاهر، وجهوية- مالية- أمنية في الواقع. إن هدفنا ببساطة هو مساءلة "العقل السياسي السعودي"، إن اعتبرناه "عقلا" و"سياسيا" لا مجرد شطحات أو نزوات فردية -عائلية- قبلية مُمأسسة؛ في المرحلة التي تحوّل فيها السجل السياسي من المعجم "الفقهي" إلى معجم "القانوني"، أي في المرحلة التي أصبحت فيها "قوائم الإرهاب" الشكل المقبول عالميا لتمير منطق "التكفير" الوهابي، الذي هو نواة المذهب الصلبة وعلة وجوده ذاتها.

 

بصرف النظر عن مآلات المشروع السلطوي لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فإنّ المؤكد هو أن السعودية لن تكون هي ذاتها

بصرف النظر عن مآلات المشروع السلطوي لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وبصرف النظر عن كون "مشروعه" هو تأسيس للدولة السعودية الرابعة، أو نسف للدولة الثالثة وتفيت لها، وبصرف النظر، أخيرا، عن تقاطعات هذا المشروع وتحالفاته الخفية والمعلنة مع مشروع اليمين المُتصهين المسيحي- اليهودي، فإنّ المؤكد هو أن السعودية - بل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا - بعد ظهور محمد بن سلمان؛ لن تكون هي ذاتها بعد ذلك الظهور.

رغم أن الأمير الطموح لم يحدد بوضوح سلّم صداقاته أو تحالفاته، فإنه كان واضحا جدا في تحديد سلم عداواته، أو بالأحرى تحديد الأطراف التي تمثل الخطر الأكبر على المملكة: إيران ثم الإخوان ثم الإرهاب. ولن نتساءل هنا عن الدور السعودي في "صناعة" الإرهاب، أو المجاميع التكفيرية التي لا تُخفي علاقتها بالمتن الوهابي - بل بالمال السعودي - رغم فتور العلاقة أو تصادمها مع النظام أحيانا، ولن نتساءل أيضا عن الأسباب العميقة التي تجعل من الإخوان العدو "الوجودي" الثاني للمملكة بعد إيران، ولكننا فقط سنتساءل عن "المنطق السياسي الذي كان وراء "تغييب" العدو الأعظم للوعي الجمعي العربي- الإسلامي في صيغه الأكثر عفوية وغير المؤدلجة بالضرورة: إسرائيل ومن يقف خلفها في دوائر الحكم الصهيو-مسيحية. وقد تكون الإجابة عن هذا السؤال هي مفتاح الإجابة عن سؤال "التقاطعات" بين إيديولوجية وهابية قامت على "الإسرائيليات" - رغم ادعاء محاربتها - وتأسست"دعوتها" و"دولتها" على أفضلية "العدو البعيد" على "العدو القريب"، وبين إيديولوجيا "إسرائيل الكبرى" وحلفائها/ وكلائها الإقليميين، في إطار ما يُسمّى بصفقة القرن.

قد لا يكون محمد بن سلمان هو الصورة "المثالية" للوهابي الملتزم بمنطق "الدعوة" وأدبياتها المعروفة، ولكنه يبقى رغم ذلك أحد تجسيداتها الرئيسية في مرحلة "الدولة" السعودية الثالثة. فمهما كانت التبريرات السياسية والاستراتيجية لسلم العداوات أو الصداقات، فإنها تظل مرتبطة بجذر وهابي كامن، ذلك الجذر الذي يُقدم عداوة "القبوريين" (الصوفية والشيعة) على عداوة غير المسلمين، لكن مع تعويض الصوفية في هذا السياق التاريخي بالإخوان. فالصوفية لم يعودوا يمثلون خطرا على الوهابية في موطنها الأم، بينما أصبح الإخوان وتشكيلاتهم الحزبية الخطر "الوجودي" الأهم على العرش السعودي؛ بحكم تقديمهم، بعد ثورات الربيع العربي، نماذج "إسلامية" لم تعد تشتغل بالضرورة - وإن بدرجات متفاوتة من الفشل والنجاح - بمنطق البدائل، بل بمنطق الشراكة مع "العلمانيين"، الذين مازالوا في الفقه الوهابي الرسمي"كفارا" يحكمون بغير ما أنزل الله. ولذلك، فإن تصنيف السعودية للإخوان في قائمة الحركات الإرهابية، بل تصنيف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في تلك القائمة ذاتها، هو أمر "منطقي" و"مفهوم، حتى من داخل الوهابية الرسمية، بصورة لا تقل "منطقية" عن تصنيف حزب الله في تلك القائمة الإرهابية.

 

لو بحثنا عن السمة الجديدة في الأداء الحالي لـ"العقل السياسي السعودي- الوهابي"، لقلنا إنها انتقاله في المرحلة الأخيرة من مرحلة تكفير أعداء سياساته إلى مرحلة وصمهم بالإرهاب

لو بحثنا عن السمة الجديدة في الأداء الحالي لـ"العقل السياسي السعودي- الوهابي"، لقلنا إنها انتقاله في المرحلة الأخيرة من مرحلة تكفير أعداء سياساته إلى مرحلة وصمهم بالإرهاب. ولا شك في أنّ واضع هذا التصنيف للحركات الإرهابية يظن أنها تخدم المصالح العليا"للسعودية"، خاصة أمام الابتزاز الأمريكي المتواصل للنظام واشتداد حدته، مع وصول "المغامر" ترامب للحكم، ولكنه متأكد من أنها تخدم بالضرورة من يكفله في النظام العالمي الجديد: أمريكا والكيان الصهيوني. وسيكون محمد بن سلمان مجبرا على استكمال "مشروعه الشخصي" بالالتزام الحرفي بالمشروع السياسي الصهيوني، وليس أكثر دلالة على ذلك من وقوفه المستميت خلف السلطة الفلسطينية في استراتيجيتها الهادفة إلى "المصالحة الوطنية"، لكن بشروط الكيان الصهيوني وإملاءاته المعروفة، كما أنه ليس أكثر دلالة على هذه التقاطعات المؤكدة بين مشروع وريث سلمان ومشروع ورثة بن غوريون من اتحادهما الاستراتيجي في محاربة الربيع العربي، وفي منع أي تصالح ممكن بين جناحي الأمّة المهزومة: الإسلاميين والعلمانيين.

مهما كان موقفنا من محمد بن سلمان، ومهما كان تقييمنا لمشروعه السلطوي، فإنه يجسد اللحظة التي أصبح فيها التصنيف الإرهابي- برعاية أمريكية - أعلى مراحل الوعي التكفيري الوهابي المرتبط بدوره الوظيفي الآن. وهنا في " صفقة القرن"، تلك الصفقة التي يشرف عليها سدنة الإسرائيليات (مرجعا في الدين) وأنصار الاسرائيليين (مرجعا في السياسة).. ولذلك، فإن السعودية سائرة لا محالة إلى تعميق التمايز عن كل مكونات الحقل الإسلامي (بصرف النظر عن الأصل الطائفي لتلك المكونات)، ما دامت تمثل مرجعا سياسيا أو فقهيا ممكنا لنسف الوهابية باعتبارها أساس الشرعية السعودية، أما الباقي فتفاصيل أو اشتقاقات من هذا النبع الأصلي لكل المشاريع الكارثية إقليميا ووطنيا، خاصة تلك المشاريع الرامية إلى نسف كل الإمكانيات التحررية في الثورات العربية وضرب حلفائها الإقليميين، خاصة تركيا وقطر.