حدثت في الآونة الأخيرة ثلاثة تطورات كبرى في المنطقة: قرار الرئيس الأمريكي ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس بدل تل أبيب، والاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، والثاني، مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، والثالث، القمة الخليجية في الكويت بحضور قطر.
تبدو هذه التطورات في الظاهر غير مرتبطة، لكن عند استحضار معطياتها يظهر الخيط الرفيع الذي يجمعها، والذي يؤشر إلى أن المعادلة العربية، بالمآل الذي انتهت إليه، لم تعد قادرة على الاستجابة للتحديات، وأن منظومة الأمن العربي أصبحت على فوهة بركان هادر؛ إن لم يتم تعديل قواعد هذه المعادلة، واستعادة توازن الموقف فيها.
قرار الرئيس الأمريكي الذي استهدف وضع القدس، والذي نسف كل الاتفاقات الهشة المضمنة في عملية التسوية، وبشكل خاص اتفاق أوسلو الذي ينص على أن التفاوض بشأن القدس يعتبر ضمن ملفات الوضع النهائي، جاء بعد عمليات تسوية كبرى دخلت في أطرافها كل من مصر والسعودية، الأولى، بشرعنة وضع التغلب السلطوي لنظام السيسي، والثانية، بضمان سلاسة انتقال الحكم إلى ولي العهد محمد بن سلمان بدفتر تحملات يوجد ضمن مشمولاته تحديث الإسلام السعودي، والتطبيع مع إسرائيل، وضمان حيادها في تمرير القرار الأمريكي بشأن القدس.
قرار الرئيس الأمريكي الذي استهدف وضع القدس جاء بعد عمليات تسوية كبرى دخلت في أطرافها كل من مصر والسعودية
مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، وإن اختلفت بشأنه الروايات، يكشف في الجوهر؛ تحديات استعادة
السعودية لأحد أهم جدران أمنها القومي، إذ انتهت في النهاية إلى الوعي بضرورة مراجعة أخطاء سياستها الخارجية في اليمن، وذلك باستعادة جزء من محاورها وحلفائها في اليمن، والاشتغال على تفكيك التحالف بين علي عبد الله صالح والحوثيين، واستمالة حزب المؤتمر إليها لإيجاد موطئ قدم في صنعاء، وسحب البساط من تحت أرجل الحوثيين الذين - بدورهم - التفتوا إلى خطورة التحرك السعودي، فأقدموا على قتل صالح لإفشال ترتيبات استعادة المبادرة في اليمن.
أما القمة الخليجية، فبالرغم من ضعف تمثيلية كل من السعودية والإمارات، وبالرغم من محدودية مخرجاتها، إلا أن مجرد الاتفاق على استمرار مجلس التعاون الخليجي، الإطار الجامع للدول الخليجية، والدعوة لتعديل النظام الأساسي له ليضم آلية فض النزاعات بين أعضائه، يعتبر بمنزلة مراجعة، ولو جزئية، للوضع الحالي، وفتح كوة في جدار الحصار الذي أقامته السعودية والإمارات ضد دولة قطر. فإذا أضيف إلى ذلك الاتفاق على مواجهة التحديات التي تهدد الأمن الخليجي، فإن قمة الكويت، رغم كل ما قيل عن محدودية نتائجها، تكون - على الأقل - قد أعلنت عن استحالة استمرار الوضع الخليجي بهذه الحالة المأزومة.
ثلاثة تطورات كبرى، تكشف في مجموعها وتركيبها، أن الوضع العربي، وبشكل خاص الخليجي، إذا استمر على الحال نفسه، فإنه سيكون ليس فقط فاقدا للقدرة على الإجابة على التحديات والتهديدات التي تواجهه، بل سيكون بمنزلة مشارك فعلي في سيناريو استهدافه وتفكيكه وزعزعة أمنه.
الوضع العربي إذا استمر على الحال نفسه، فإنه سيكون ليس فقط فاقدا للقدرة على الإجابة على التحديات والتهديدات التي تواجهه، بل سيكون بمنزلة مشارك فعلي في سيناريو استهدافه وتفكيكه
الآن، فقط، وبعد أن برزت ردود الفعل العربية والدولية والشعبية من قرار الرئيس الأمريكي ترامب، تأكدت عزلة الموقف السعودي، ونسفت أطروحة مشروع الإصلاح في السعودية بالكامل، وتبين أن ما يجري في حقيقة الأمر، ليس إلا صفقة بائسة تقوم على جهل فظيع بمعطيات السياسة، وبتاريخ الأمة وهويتها، وبحساسية القضايا المركزية في وعيها، وبالآثار السياسية التي يمكن أن تترتب عن ذلك.
أول هذه الآثار؛ أن تفقد المملكة العربية السعودية وضعها الاعتباري كطرف ساهم أكثر من مرة في ترتيب المصالحة بين مكونات الصف الفلسطيني، وأن تفقد مصداقيتها لدى مختلف الطيف الفلسطيني بسبب برودة موقفها بخصوص القرار الأمريكي، وضعف رد فعلها تجاهه، وسكوتها على مؤامرة تجري ضد القدس.
ثاني هذه الآثار، الذي بدأت تظهر ثماره على أرض الواقع، إجهاض كل الجهود المصرية للاتفاق بين فتح وحماس، وتحويل اتجاهه نحو المقاومة بدل خلق واقع آخر في غزة يضعف وجود حماس بها، وتفجير الوضع الأمني في المنطقة، وإشعال نار انتفاضة ثالثة مدعومة عربيا ودوليا، وتتجه في بعض مفرداتها إلى إدانة التواطؤ السعودي.
ثالث هذه الآثار، هو الإحراج العربي للموقف السعودي. فالمغرب، باعتبار عاهله رئيس لجنة القدس، خرج في بيان في الموضوع بمواقف قوية، تدفع في اتجاه تحرك عربي ضد الإدارة الأمريكية؛ لا يكتفي فقط بالإدانة، بل يتجه بحراك دبلوماسي عربي لإجبار الولايات المتحدة الأمريكية، ليس فقط على مراجعة قرارها، ولكن أيضا إلى التنبه لمخاطر الإقدام مرة أخرى على موقف شبيه في قضية مركزية في مخيال الأمة وذاكرتها الجماعية.
رابع هذه الآثار، الحراك الشعبي العربي الإسلامي، لكن هذه المرة ليس على خلفية الحرية والكرامة، كما كان الأمر في ربيع الشعوب، ولكن على أرضية القدس القضية المركزية في ذاكرة الأمة، ذلك الحراك الذي سيكون من أول بركاته إعادة تجسير العلاقة بين مكونات الطيف العربي الإسلامي، وإعادة الدفء في العلاقة بين القوى الإسلامية والقومية والديمقراطية، وتوحيدها على أرضية الدفاع عن القدس ومقاومة المشروع الصهيوني التهويدي.
خلق واقع جديد يغطي على سياسة إيران اتجاه العالم العربي في المنطقة، ويمنحها قدرا من الشرعية
خامس هذه الآثار، هو خلق واقع جديد يغطي على سياسة إيران اتجاه العالم العربي في المنطقة، ويمنحها قدرا من الشرعية في لبنان، من خلال دعمها للمقاومة، ويضمد شعبية حزب الله التي تضررت بفعل مشاركته في الحرب في سوريا إلى جانب نظام بشار الأسد، ويمتص الانتقادات التي وجهت إلى إيران على خلفية استهدافها للأمن العربي والخليجي. فاليوم، ستظهر إيران أكثر جرأة في الدفاع عن القدس ومواجهة المخططات التي تستهدفها من السعودية نفسها، وسيكون بإمكانها أن تشتغل على خلق تعاطف شديد على خلفية مظلوميتها، بسبب من الموقف السعودي البارد تجاه قضية القدس، وستضاف إليها حجة جديدة على وجود صفقة أمريكية سعودية لاستهداف إيران، وستصبح القدس وطهران بالمظلومية نفسها في الخطاب السياسي الإيراني.
سادس هذه الآثار، هو إبراز مظلومية قطر، وانكشاف جزء من المفسرات الأساسية لحصارها، الذي يرتبط بموقفها من القضية الفلسطينية ومن دعمها للمقاومة. إذ بدا الموقف القطري المستنهض للأمة في قضية القدس الموقف الطبيعي للأمة، ولجميع مكوناتها، وانكشف في المقابل التواطؤ المكشوف لدول الحصار مع الموقف الأمريكي.
خلاصة الموقف، أن هذه التطورات الثلاثة تظهر أن السعودية وحليفتها الإمارات العربية توجد اليوم في وضع نشاز في العالم العربي، وأنه بسبب أخطائهما في السياسة الخارجية، وتدخلهما في عدد من الدول العربية، وتواطئهما مع السياسة الأمريكية المعادية لقضايا ألأمة، تسببتا في مزيد من تكسير جدار الأمن القومي الخليجي، وهما ماضيتان بكل تهور نحو التمكين للمخطط الصهيوني من جهة، والتمدد الإيراني من جهة أخرى، ويمكن أن تتسبب سياستهما - إن لم تراجع على وجه السرعة - في اندلاع ربيع عربي ثان، يعصف بما تبقى من الاستقرار في المنطقة.