تعبّر الكلاسيكيات السياسية عن دور الدولة بأنها "حارس ليلي" يرفع الصوت عند وجود الخطر، ويسعى للحفاظ على الأمن قدر المستطاع، ويحمي حدود منطقته. ثم حدث تطور لذلك المفهوم ليس هذا محله، لكن بقي في النهاية مفهوم "الدولة الحارسة" يمثل الحد الأدنى لدور الدولة في الدراسات السياسية المعاصرة.
(1)
تتحدث الأنظمة السياسية المصرية المتلاحقة عن دورها في حفظ "الأمن" المصري، على المستوى المحلي أو الخارجي، لكن نظرة واحدة لأحوال الشوارع تكفي لإدراك مدى تزايد حجم الجريمة في مصر. أما فاقدو الثقة في غير الأرقام الرسمية، فبإمكانهم فحص الأرقام الصادرة عن وزارة الداخلية في حصادها لعام 2016، الذي نشرته الصحف المصرية أوائل العام الجاري، وجاءت فيه هذه الحقائق التي تتحدث عن أنه "تم ضبط"، أي أنها لم تذكر ما لم يتم ضبطه:
• تم ضبط 1293 جريمة قتل عمد في البلاد، بمعدل 3.5 قتلى يوميا، بخلاف ضحايا حوادث الطرق والقتل غير العمد.
• تم ضبط 726 جريمة سرقة بالإكراه، بمعدل جريمتين يوميا.
• تم ضبط 197 قضية خطف، بمعدل مختطف واحد كل يومين.
• تم ضبط 12527 جريمة سرقة، ما بين سيارات ومساكن وقضايا نصب ونشل، بمعدل 34.3 جريمة سرقة يوميا.
• تم ضبط 37448 سلاحا ناريا، و67999 سلاحا أبيض.
• تم ضبط 1278 تشكيلا عصابيا ضمت 4197 متهما.
• تم ضبط 1319443 محكوما عليهم في قضايا متنوعة، منها 64101 قضية جنائية و4150162 قضية جنح، بخلاف قضايا أخرى تم ضبط المحكوم عليهم فيها، بإجمالي 7489640 قضية.
• تم فحص 92438 مسجلا شقيا خطرا، وهو رقم للمسجلين شديدي الخطورة في مصر.
• تم ضبط 57506 قضية اتجار وتعاطي مخدرات، بلغ عدد المتهمين فيها 72741.
نذكّر مرة أخرى بأن هذه الأرقام لا تتحدث عن معدلات الجريمة، بقدر ما تتحدث عن معدلات مكافحتها. وشتّان بين الأمرين.
(2)
عقب الثورة المصرية، مطلع 2011، بدا أن هناك تعمدا لربط الثورة بزيادة الجريمة، وتحرك الإعلام الإقليمي الرافض للثورة في ذلك الاتجاه، جنبا إلى جنب مع إشارات مصرية رسمية مرتعشة - حينها - حول ذلك الترابط بين تغيير النظام وزيادة الجريمة، وكأن من شارك في الثورة نسي لحظات الانفلات الأمني المتعمد الذي جرى بفعل موظفيه. وما جرى بالفعل، أن الشارع كان متماسكا، وحافظ على الأمن في أحلك لحظاته؛ وخيانة موظفيه لواجبهم الذي يتقاضون أجره من أقوات الناس.
استمرت مندبة غياب الأمن عقب الثورة، وتصاعدت أثناء حكمها، ثم جرى ما جرى في منتصف 2013، وقالت الدولة مرة أخرى أنها ستضع حدا للفوضى وستعيد الانضباط للشارع. لكن الأرقام السابقة تقول إن شعارات ذلك النظام لا تزال غير صامدة أمام اختباري الحقيقة والواقع.
(3)
سعت الدولة بكل قوتها لفرض القوة، وربما أرادت فرض الهلع والفزع، فانشغلت اهتماماتها "الأساسية" بالأمن دون الاقتصاد والاجتماع، وفي الأمن تخيّرت السياسي دون الجنائي، فأصبحت هناك حالة من الفقر والبطالة؛ أنتجت زيادة في الجرائم التي يمكن وصف بعضها بالجرائم الشخصية التي لا تتعدى في ضررها للغير، كتعاطي المخدرات، وجرائم أخرى لطلب المال للخروج من حالة الفقر، بدءا من الرشوة، وانتهاء بالسرقة بالإكراه والاتجار في الممنوعات بشتى صورها.
أنصار أيديولوجية "الطريق الثالث"، نجدهم يتحدثون عن ارتباط الأمن والخوف من الجريمة بالتضامن المجتمعي
تشكّلت معادلة مفادها أن كل انحدار في واجبات الأمن يستتبعه بالضرورة انحدار في تماسك المجتمع، ويستتبعهما بالضرورة زيادة استئثار الحاكم بالسلطة
(4(4)
في أدبيات أنصار أيديولوجية "الطريق الثالث"، نجدهم يتحدثون عن ارتباط الأمن والخوف من الجريمة بالتضامن المجتمعي، ذلك أن المجتمع الذي تتفشى فيه الجرائم يصبح انعزال الناس عن بعضهم أمرا طبيعيا، وعدم تضامنهم في الأزمات مبررا في قناعاتهم الداخلية، مما يفقد المجتمع الوسيلة الأولية للحفاظ على الأرواح، فالذي ينقطع به الطريق ويحتاج لمن يُقلّه يجد الكثيرين يخشون من الوقوف له، فربما يكون خاطفا، ومن ينقطع بها الطريق تتردد كثيرا في استيقاف أحدهم، فربما يستغل كونها أنثى ركبت معه بإرادتها، فيفقد الناس وسيلة الأمان الأولى قبل الاستنجاد بالقوات النظامية، وهذه كارثة غياب الأمن الأكبر على الإطلاق.
من هنا تشكّلت معادلة مفادها أن كل انحدار في واجبات الأمن يستتبعه بالضرورة انحدار في تماسك المجتمع، ويستتبعهما بالضرورة زيادة استئثار الحاكم بالسلطة. وهذه المعادلة الاستبدادية هي الأنجح على الإطلاق في استقرار الاستبداد، وهي الأخس على الإطلاق في إدارة المجتمعات. ولا خلاص للمجتمعات إذا أرادت تحقيق الأمن وتحسين الوضع الاقتصادي سوى باعتصام أفرادها ببعضهم وتماسكهم، لتنمو قوة مجتمعية إزاء بطش الدولة واستبدادها، وتقدر حينها على امتلاك أمر نفسها، ومن حاد عن هدف المجتمع ردّوه باجتماعهم وائتلافهم.