الصراع الدائر في منطقة القرن الأفريقي وباب المندب ليس بصراع جديد، فهذه المنطقة نتيجة لموقعها الاستراتيجي كانت هدفا للطامعين والغزاة على مدي العصور.
بل إن الصراع كثيرا ما انتقل من ضفة البحر الأحمر إلى ضفته الأخرى، وانتقلت معه السلطة كما يذكر التاريخ. وحتمية المصالح هي من يفرض ذلك.
أما الصراع الدائر اليوم، فأن أهم أسبابه تكمن في: الصراع حول مياه
النيل، وصراع القوى حول باب المندب.
كان الصراع بين الدول العربية وإسرائيل سابقا حول هدفا واحد، وهو أن يظل البحر الأحمر بحرا عربيا. ولهذا دعمت الدول العربية الثورة الإريترية ضد محاولة ضمها قسرا لإثيوبيا، فقد وعدت بريطانيا الإمبراطور الإثيوبي هيلي سلاسي بذلك، وهو ذات الوعد الذي وهبت بمقتضاه فلسطين للصهاينة.
تسببت هزيمة العرب في عام النكسة 1967 من عدم تحقق ذلك الحلم العربي، وأصبح لإسرائيل موطئ قدم على البحر الأحمر، ولهذا سعت بكل ما أؤتيت من قوة، بمساعدة أمريكا، ألا تصبح إريتريا دولة عربية.
وتعاونت دول عربية، منها
السودان والسعودية وليبيا على إخراج تنظيم جبهة تحرير، ومساندة سياس أفورقي وتنظيم وياني تجراي (تنظيم سياسي إثيوبي) على أن يبقي التنظيم الأوحد في ساحة النضال، الأمر الذي مكنه من اعتلاء سدة الحكم منذ الوقت، وهو يعمل على إخراجها من الصف العربي.
فدور إريتريا في المنطقة مشوب بالغموض والتذبذب في السياسة الخارجية؛ التي تتأرجح بشكل مفاجئ بين العداوة والخصومة والحروب مع دول الجوار (حرب مع اليمن وإثيوبيا وجيبوتي، واعتداء صارخ على الحدود السودانية).
أما علاقاتها مع
مصر، فظلت تراوح بين القوة والضعف بحسب درجة رضا الحكام في مصر عن إثيوبيا، حيث ما فتئوا يضعون نصب أعينهم علاقتهم بإثيوبيا، وحرصوا بأن لا يشوبها أي نوع من التوتر حتى لا يؤثر ذلك على اتفاقيات مياه النيل.
غير أن العلاقات الإريترية المصرية كان يصيبها الكثير من التوتر بسبب قوارب الصيد المصرية التي كان يتعرض أصحابها للاعتقال؛ بتهمة اختراق المياه الإقليمية الإريترية أو التجسس في أوقات أخرى. وقد حدث تحول في العلاقة بسبب تدخل الكنيسة الأرثوذكسية في عهد البابا شنودة.
وفي تطور غريب في عهد الرئيس السيسي، شهدت العلاقات بين البلدين تبادل الزيارات على مستوى الرئاسة، وتعاونا على المستوى العسكري، ووجود وحدات من الجيش المصري في القاعدة الإماراتية في مدينة عصب، وهي قريبة من إثيوبيا. وبالرغم العلاقة الطيبة التي تربط إريتريا بالسودان، إلا أنها كانت داعمة لمصر في اتفاقية عنتيبي.
ويعود سر العلاقات الودية بين البلدين - ظاهريا - إلى العداء الذي تكنه الحكومتان لحكومة إثيوبيا. فمصر ترغب بوقف العمل بسد النهضة، وإريتريا ما زالت في حالة اللاسلم واللاحرب مع إثيوبيا منذ حرب بادمي.
أما السودان، فإنه يرتبط بعلاقات جيدة مع إثيوبيا، ويدعم بناء سد النهضة لتوفير ما يعادل حوالي 16 مليار متر مكعب من مياه النيل كانت تذهب إلى مصر ثم البحر.
تتحامل مصر على السودان باعتباره كانت وراء محاولة قتل الرئيس المصري (حسني مبارك) في إثيوبيا، وأن السودان يقوم بإيواء أعضاء من تنظيم الإخوان المسلمين، كما جلب تركيا إلى جزيرة سواكن.
السودان من جهته؛ يتهم مصر بأنها وراء فصل الجنوب، وأنها تحتل أرضا سودانية، وهي حلايب وشلاتين، وأنها تقدم الدعم المعنوي واللوجيستي للمعارضة في السودان.
أدان الرئيس الإريتري الحكومة السودانية لإعطائها جزيرة سواكن لتركيا، باعتبار أنها قوة من خارج الإقليم، متناسيا أنه جلب إيران إلى منطقة البحر الأحمر، وأتاح تدريب الحوثيين وتسليحهم من قبل إيران، لكنه أنه انقلب عليهم وانضم إلى محور عاصفة الحزم، وسمح للإمارات ببناء قاعدة عسكرية تقلع منها طائراتها لقصف اليمن.
كما أن إسرائيل لها قاعدة في إريتريا (في جزيرة دهلك)، مع وجود مكثف في معسكر ساوا (غرب إريتريا) قرب الحدود السودانية.
فالقاسم المشترك بين مصر وإثيوبيا وإريتريا هو العلاقة الحميمة مع إسرائيل، ولهذا طلبت مصر من الحكومة الإثيوبية إخراج السودان من المفاوضات وإدخال البنك الدولي كوسيط. وهذه النقطة بالذات هي التي كشفت سر الأزمة مع السودان، على خلفية الـ16 مليار متر مكعب التي احتجزت من مصر..
كل هذا استقراء للواقع ومعطياته المتوفرة، لكن لو فكرنا مليا بحقيقة ما يحدث، نجد أن هذه الدول جميعها تعمل على أجندة خفية، ولكل منها منطلقاتها. فلو أخذنا مصر على سبيل المثال، وعدنا القهقري إلى حقبة تاريخية ثلاثة عقود إلى الوراء، بالذات في عهد السادات، بطل العبور، لوجودنا أن السادات عقد اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، وكان أحد البنود التي اقترحها السادات ضمن هذه الاتفاقية أن يهب إسرائيل جزءا من مياه النيل، فقد كان يعتقد أنه بهذا الاقتراح إنما يرمي عصفورين بحجر واحد: القضية الفلسطينية وإسرائيل معا.
وقد ذكر السادات في رسالته لبيجن: عرضت عليكم أن أمدكم بمياه يمكن أن تصل إلى القدس، مارة عبر النقب، حتى أسهل عليكم بناء أحياء جديدة للمستوطنين في أرضكم. وجاء رد بيجن: يا سيادة الرئيس.. إننا لا نبيع أمانينا الوطنية بالثمن.
وقد بنى السادات اقتراحه هذا على خلفية أن ستة مليارات تذهب إلى البحر يمكن إعطاؤها لإسرائيل؛ حتى تتخلى عن الضفة الغربية. ونُشر في مجلة أكتوبر (16 كانون الأول/ ديسمبر1979)؛ أن الرئيس السادات أمر بعمل دراسة كاملة عن توصيل مياه النيل للقدس، عندما أعطى إشارة البدء في حفر ترعة السلام قرب فارسكور، لتمر تحت قناة السويس إلى سيناء، لتكون مياه النيل هي سيناء الجديدة يرتوي منها المؤمنون بالأديان السماوية الثلاثة. وقد أطلق على هذا المشروع اسم "ماء زمزم الجديدة".
والمشروع في حد ذاته ليس جديدا، فقد طلب ثيودور هرترزل من اللورد كرومر أن يمد مياه النيل إلى سيناء والعريش، ويخصص مكانا للهجرة اليهودية، إلا أن الأخير رفض. كما أن القمة العربية الأولى عام 1964 التي دعا إليها عبد الناصر؛ كانت لأن اسرائيل كانت قد عزمت على الاستيلاء على جزء من المياه العربية.
إلا أن السادات كان يعي تماما الإشكالات التي يسببها تنفيذ هذا المشروع، وأن ذهاب قطرة واحدة من مياه النيل إلى إسرائيل يعد خرقا للاتفاقيات الدولية لمياه النيل، وحاول أن يضيف مسحة دينية لتبرير تفريطه في السيادة الوطنية، كما أنه لم يراع الزيادة السكانية المطردة في مصر، وهو الأمر الذي يؤكد محاولته التملص من مسؤولية اتخاذ القرار منفردا.
فبعد أن كُشف عن الرسائل المتبادلة بينه وبين بيجن، أرسل رسالة لملك المغرب الحسن يؤكد أنه عرض مياه النيل على إسرائيل، وأنه لم ينفرد بالقرار، إنما أشرك رئيس الحكومة مصطفى خليل، ونجد أن السادات جانبه الصواب حين أدعى أنها ستة مليارات متر مكعب، بل هي 16 مليار متر مكعب.
وقد كان هذا الاتفاق ملزما بعد سنة على توقيعه، وأن أمريكا وإسرائيل شكّلتا ضغطا على الحكومة المصرية من حينها لتنفيذه.
ففي عام 1980، زار المهندس اليشع كلي، صاحب مشروع ترعة السلام، العديد من الوزارات منها الري والزراعة، وقدم باسم هيئة ناحال؛ دراسة إلى وزارة الري لاستصلاح الأراضي بصحراء الصالحية غربي قناة السويس.
كما قدم عالم إسرائيلي، اسمه شاؤول، بمشروع لحفر ثلاث قنوات تحت قناة السويس، لتوصيل مياه النيل عبر قنوات ضخ رئيسية في سيناء من مدينة بالوظة، ومنها ترفع المياه عشرة أمتار لتدفع في قناة مفتوحة تسير بمحاذاة ساحل سيناء الشمالي، ومن هذه القناة تتفرع عدة قنوات جانبية لمشروعات الري في المستوطنات التي تنوي مصر إقامتها، وتنتهي القناة بعد أن تبدأ الحدود عند بداية جهاز الري الإسرائيلي.
وتشير التكهنات إلى أنه قد تم حفر تلك القنوات أثناء إنشاء قناة السويس الجديدة، كما يحلو للإعلام المصري تسميتها، وما هي إلا تكملة لمشروع الري الإسرائيلي من مياه النيل.
إن إسرائيل نتيجة للوعد الساداتي أصبحت شريكا في مياه النيل، ولهذا هي من قام بتمويل مشروع سد النهضة؛ لأن السد - بحسب الإحصاءات التي اعلنتها الحكومة الإثيوبية - سيوفر حوالي 74 مليار متر مكعب أثناء الفضيان للاستخدام في موسم الجفاف عند انخفاض مستوى منسوب المياه.
ولا نجد تفسيرا للضجيج الذي تثيره مصر حول سد النهضة، الإ أنه نوعا من صرف الانتباه عما تقوم به من حفر قنوات تحت القناة وتتهم إثيوبيا بأنها من يرغب في مد إسرائيل بمياه النيل، علما بأن العلاقات الإثيوبية الإسرائيلية ليست جديدة ولا خافية، وليس هناك ما يعيب الحكومة الإثيوبية أن تبديها. ولكن الوضع مختلف تماما بالنسبة لمصر الأمر الذي يعد خيانة للسيادة الوطنية المصرية، ولن يغفرها الشعب المصري.
كما أن تأثير السد على مصر ليس بهذه الخطورة؛ لأن السد العالي يوفر لمصر ما تحتاجه، وأن السادات أثناء مساوماته مع اسرائيل رفع النسبة إلى 260 مليار متر مكعب، مؤكدا أن المياه تذهب إلى البحر.
وقد أوضح وزير خارجية السودان، إبراهيم الغندور، أن هذه المياه التي تذهب إلى البحر ما هي إلا جزء من حصة السودان التي قرر الاستفادة منها مؤخرا، وهو الأمر الذي يجعل مصر غير قادرة على الوفاء باتفاقها حيال إسرائيل.. فهذا هو السبب الثاني والأساسي وراء الحملة المستعرة ضد السودان، ومحاولة تطويقه والتدخل في شؤونه الداخلية. أما السبب الأول، فهو ذر للرماد في العيون لصرف الأنظار عما يدور في الخفاء، كما أسلفت.
وهذا يفسر سر اللغط والضجيج الذي تثيره مصر؛ لأنها مجبرة على إتمام صفقة كامب ديفيد التي ورط السادات مصر فيها، وقد رفض حسني المبارك - بكل المآخذ عليه - التورط في إتمامها، ويضطلع السيسي بإنهائها وهو متخذ قناع الحادب والمخلص لوطنه. ولكن ما هو دور إريتريا؟ وما هي الأجندة خفية خاصتها؟ فهي أيضا ترسل مجموعة من الاتهامات نحو دول الجوار!
تتهم إريتريا؛ إثيوبيا بأنها من يعمل على أجندة خفية وتود إخراجها، إلا أننا نعلم أن من يمسك بزمام السلطة في إثيوبيا هم من إقليم تجراي، وأسياس أفورقي وهم من نفس القبيلة، فهم إذن وجهان لعملة واحدة، فقط تغيرت المواقع والأدوار. فهم يعملون من وراء الستار لإرجاع إريتريا إلى حظيرة إثيوبيا، ثم تحقيق الهدف الأسمى، وهو إثيوبيا الكبرى، وهو حلم شبيه بالدولة العبرية، أو في أسوأ الحالات، ظهور الدولة الأكسومية (دولة تجراي تجرينيا)، وهذا المشروع تدعمه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ضد الدولة الوطنية التي ضحى الشعب الإيرتري من أجل استقلالها.
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل يرغب العرب، وأولهم الإمارات والسعودية ومصر والسودان في أن تتحول إريتريا المسلمة إلى أندلس أخرى، في ظل سياسات الكيل بمكيالين والأجندات الخفية، وصراع المصالح حول المواقع الاستراتيجية وحرب المياه أو بالأحرى حرب البيادق؟ حيث أنهم جميعا كقطع الشطرنج تحركهم أمريكا وإسرائيل من أجل مصالحهما. ولنعلم أن ذلك ما هو إلا صراع من أجل تغير المواقع، فإن دولة الإمارات نجدها هنا وهناك، فهي مع مصر ضد السودان.. أليست هي الدولة التي تعمل شركاتها بالتنقيب والتعدين في حلايب؟ وهي مع إثيوبيا حليفة السودان، ولها مصالح، ورأس المال الإماراتي هو من يمول سد النهضة، في حين أن لها قاعدة عسكرية في عصب، يوجد فيها جيش مصري. أليس مصر من ناصبت العداء لإثيوبيا والسودان بسبب سد النهضة؟
فالإمارات الآن قد حجزت لها موقعا استراتيجيا بباب المندب، بعد أن قامت بضرب اليمن الشقيق حتى توفر لنفسها شريان للحياة. يري خبراء الاقتصاد أن وضع دبي سيكون مهددا بمجرد الانتهاء من إنشاء ميناء الباكستان الجديد، فهو سيفتح طريقا بحريا جديدا إلى الصين والشرق الأقصى.
ويبدو أن السودان ليس بمعزل عن الأجندات الخفية تجاه إريتريا. وهنا تساؤل يتبادر إلى أذهاننا: هل سيخرج إلى النور المشروع البريطاني القديم إلى حيز الوجود؟.. إذن هي قطع البيادق التي تتغير وفق إرادة اللاعبين، وليس لها إرادة ذاتية سوى التحرك بحسب الإملاءات الدولية وسياستها في المنطقة، بغض النظر عن طموحات الشعوب وأمانيها الوطنية.
والسؤال الذي يفرض نفسه: ما مصير الشعوب التي في المنطقة ومنها شعب شرق السودان، والشعوب المسلمة في إريتريا؟