يختلف شعب يناير عن جيلها.. جيل يناير هو الذي أنتج
الظاهرة، أما الشعب فهو الذي تفاعل معها، سار وراءها، صدقها، أيدّها، وقف أمام
لجان الانتخابات بالآلاف، تحت المطر، وفي عز الحر، وانتخب "الجاهز"،
والأقرب للغته وثقافته.. وحين عجز "جيل يناير" وممثلوه في الاتحادية عن
تحقيق شيء؛ عاد الشعب إلى المقاهي للفرجة.. حقه!
لا لوم على شعب يناير، فهو لم يخذل إلا من خذله.. اللوم
على من تصوروا أن تأييد الناس "مطلق سياسي" لا يتغير، فإذا بالناس وقت
الحلم هم "شعب مصر العظيم"، ووقت الإحباط وخيبة الرجا هم "عبيد
البيادة". والحقيقة أن الناس لا هم الشعب العظيم ولا هم عبيد البيادة.. الناس
هم الناس في كل زمان ومكان، ولكن أكثر "الانتلجنسيا" لا يعلمون!
لا لوم على شعب يناير، فهو لم يخذل إلا من خذله.. اللوم على من تصوروا أن تأييد الناس "مطلق سياسي" لا يتغير
جيل يناير هو الجيل الذي حركه الوعي نحو ثورة - لم يُعد
لها جيدا - للتخلص من حكم فاسد، وبناء ديمقراطية حقيقية. بدأ الحراك مع
"كفاية" في 2003، وتحرك داخل هامش ديمقراطي ضيق، وتجاوز سخرية النظام والإسلاميين،
على حد سواء، من إمكاناته العددية، وخطابه المتعالي، وغير المفهوم للسواد الأعظم
من المصريين.. مظاهرة من خمسين نَفَرا، أمام سلم نقابة الصحفيين أو المحامين، أو
دار القضاء العالي، أو دار الحكمة.. تهتف ضد مبارك، وتكتب بالسبراي الملون على الإسفلت:
"يسقط مبارك" و"لا للتوريث"، ثم تكمل "الشلة"
قعدتها على مقاهي وسط البلد، في جدل وحلم لا ينتهي..
سقط مبارك بشخصه، ولم يسقط بنظامه، ولا بوعي شعبه، رحل بسلطته ولم يرحل بمنظومته. هنا يكمن الفارق بين شعب يناير وجيلها، فالأول حركته عواطفه، والثاني حركته المشاعر والأفكار والأيديولوجيا
بالتراكم، تحول الخمسون إلى ألف. وحين أضاءت ثورة تونس
السياق، تحولوا بالعدوى إلى مئة ألف.. نزلنا في يناير، امتلأ الميدان، سمع بِنَا
الناس، وبدأوا أخيرا في التفات "خفيف".. في 28 يناير انضم الإخوان،
فزادت العدوى بازدياد المصابين.. لم يأتِ الشعب بعد، جاءت نخبه، ودوائرها، وبعض
أصحاب المظالم القاسية، وقليل من المتحمسين.. بدأ الصراع، صرنا واقعا، ثم كانت
"الجمل".. كاميرا "الجزيرة" نقلت للعالم صورة الخيل والجمال،
ومن يركبونها من البغال والحمير، تقتحم الميدان على الشباب. يحكي لي صديقي الذي
يحتقر السياسة، ولا يصدق أحدا، أنه كان بالمقهى يقرأ "الأهرام"، ظهره
للتلفزيون، فجأة وجد أنظار الجميع إلى الشاشة، فظن أنها هيفاء وهبي، استدار ليجد
الهراوات من فوق الجمال تجلد رؤوس المتظاهرين. وفي استجابة مشتركة من كل المتابعين
على المقهى، صدرت بعض الأصوات الخيشومية مقترنة بلفظة
مصرية أصيلة من ثلاثة حروف،
تبدأ وتنتهي بـ"أ".. دفعوا الحساب، على عجل، وانطلقوا إلى الميدان...
تبدو التفرقة بين الجيل صانع الشرارة، والشعب الذي دفع ثمن حماسه لها، مهمة، إذا كنّا نريد لهذه الفكرة أن تستمر مع جيل آخر، وأن تثمر حركات سياسية وتيارات، ومحاولات جادة لمتابعة واستئناف الفعل الثوري
جاء المصريون على سبيل النخوة والجدعنة، وسقط مبارك بعد
أيام قليلة.. سقط بشخصه، ولم يسقط بنظامه، ولا بوعي شعبه، رحل بسلطته ولم يرحل
بمنظومته. هنا يكمن الفارق بين
شعب يناير وجيلها، فالأول حركته عواطفه، والثاني
حركته المشاعر والأفكار والأيديولوجيا، والغيرة الحضارية من نماذج قريبة رآها وقرأ
عنها على مواقع التواصل. ظروف مركبة ومشاعر وأفكار شديدة التعقيد، خلقت هذا الجيل،
ولم تزل تعيده مع قسوة التجربة ومرارة هزائمها خلقا جديدا كل يوم..
تبدو التفرقة بين الجيل صانع الشرارة، والشعب الذي دفع
ثمن حماسه لها، مهمة، إذا كنّا نريد لهذه الفكرة أن تستمر مع جيل آخر، وأن تثمر
حركات سياسية وتيارات، ومحاولات جادة لمتابعة واستئناف الفعل الثوري. فالناس التي
تحركت ضد مبارك لم تكن قد عوقبت بعد بضياع هامش الأمن والأمان، وارتفاع الأسعار
إلى هذا الحد الجنوني، وسقوط نظام وقيام آخر - على سبيل التجاوز - في عام واحد. لم
تكن قد رأت السيسي - عقاب الدولة المصرية للمصريين - بإعداماته وإخفاءاته القسرية
وسماجته وبلطجته وخيانته؛ إلى حد بيع الأرض لقاء ملياري دولار. فإذا كان كل هذا
يعني عند "جيل" يناير الإصرار على التقدم، فإنه يعني عند
"شعب" يناير الإصرار على التوقف أو التراجع، ذلك لأن من يحركه وعيه غير
من تحركه آماله، فإذا أردنا من الناس أن يعودوا من جديد "شعب" يناير،
فلن تجدي "العدوى" بالتظاهر، إنما هي "معركة الوعي"، وهي مسؤولية
نخب يناير، الثقافية والإعلامية بالأساس، وهي المعركة التي لم تبدأ بعد، ولا يراد
لها أن تبدأ، بل لا أبالغ إذا قلت أنها المعركة التي يحرص المسؤولون عنها - لا سيما
في إعلام الخارج - ألا يخوضونها أبدا، ويصرون على إغرق الناس في خطابات حنجورية،
ومخدرات سياسية ودينية، توهمهم بأن "النصر قادم" (لوحده)، وأن الله
سينصرنا؛ استجابة لدعوات المعتقلين والمظلومين، وأن الله غالب على أمره، (لصالحنا
طبعا)، ولكن أكثر الفلول لا يعلمون، هنا بيت الداء، ومن هنا - إن أردنا - تبدأ
معركتنا!