على مقهى بعمارة استراند الشهيرة بباب اللوق العتيق بالقاهرة، جلس صديقي ضابط الجيش معي لآخر مرة، كنا في خضم تفاعلات الاستعداد لجولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية بين مرسي وشفيق، سحب صديقي أنفاسا عميقة واثقة يملؤها الكبر من حجر تفاح، ثم قال: شوف يا صاحبي.. البلد دي ليها صاحب.. واحنا أصحاب البلد.. مرسي بتاعكو هنسيبه ينجح.. بس قابل يا معلم..
وجملة "قابل يا معلم" تعبير مصري أصيل يحمل وعيدا حادا وحاسما.
نجح مرسي، وحدث ما حدث، ثم استرد من يظنون أنفسهم أصحاب البلد، البلد حتى حين. وبعد انقلاب 3 يوليو قاطعني صديقي.
*********
الجيش في مصر – حتى الآن على الأقل – مفتاح السر وحل اللغز، ولأن السيسي حسبما أرى ويرى كثيرون هو تتويج لأحلام وخطط الصهاينة للانتقام من المصريين على أفعال طواها التاريخ، أغلبها كما تقول دراسات علمية من اختلاق كتاب العهد القديم وصناع الصهيونية، فقد كان في جعبة الرجل مخطط شيطاني لتحويل الجيش المصري العظيم إلى حية فرعونية تسعى يخيل للناس من سحره أنها تلقف ما يأفك الثوار والإخوان، بزعمه.
بدأ الأمرُ من بعيد، عندما سرح مبارك في بداية ثمانينيات القرن الماضي، أعدادا كبيرة من ضباط الصف بالجيش، الذين كان أغلبهم قد شاركوا في حرب أكتوبر، وضباط الصف وقتها كانوا محضنا أساسيا للعقيدة القتالية المصرية التي لا ترى عدواً سوى الكيان الصهيوني، وهم كذلك قادمون من الطبقة الوسطى وما دونها، لذا فقد كان الخلاص منهم أولى ضربات حقبة "السلام" لنصر أكتوبر وعقيدته.
ثم إن مبارك استوعب طوال 30 عاما فاعلية الضباط والرتب الكبيرة بحزمة إجراءات ماكرة منها توسيع الدور الاقتصادي للجيش والدورات التدريبية والمنح في أمريكا وغيرها حيث كان الضباط يجدون أنفسهم في مقاعد الدرس وساحات التمرين مع ضباط صهاينة! بالإضافة لرقابة صارمة تمارسها المخابرات الحربية الهدف الرئيس منها متابعة "النشاط الديني" والميول السياسية، وهو ما ارتبط بسياق آخر هو إحالة عدد كبير من الضباط للتقاعد كل عام بدءا من رتبة مقدم فما فوق، استجابة لإملاءات معاهدة السلام مع الكيان المحتل والتي تدخلت حتى في أعداد الأفراد بالقوات المسلحة.
ترافق مع كل ما سبق ذكره عزل شبه كامل لضباط الجيش وطلاب الكليات العسكرية عن الحياة المدنية في برج عاجي من الخصوصية والامتيازات والنوادي والمشروعات الاقتصادية وفرضهم على المصالح الحكومية والشركات موظفين كبارا بعد التقاعد!
لكن، حين خلا لمبارك وجه الجيش أو كاد أتاه الله بالشعب من حيث لم يحتسب بثورة يناير 2011، ووفق تفاعلات مازال أغلبها مجهولا حتى الآن باستثناء ما تعلق بموقف القوات المسلحة من توريث جمال، خلع الجيش "أبو علاء" وانخرط على نحو سافر ووجه مكشوف في كل ما جرى منذ الثوة وحتى الآن.
تفاعلات ما بعد الثورة يعنينا منها الآن أمر مهم مهد لكل ما وقع، فمن يرون انفسهم أصحابا للبلد ليسوا سواء، فمن ناحية، فيهم من يراه كثيرون عميلا مباشرا كالسيسي، وفيهم من يراهم آخرون فاسدين بدرجات متفاوتة، ولكن ليسوا عملاء. فيهم أيضا حرس قديم وجديد، وكان لابد للسيسي ليصل إلى ما وصل إليه الآن أن يُزيح الحرس القديم عن طريقه، وهو ما أكدته مؤخراً رسائل إلكترونية مسربة من البريد الإلكتروني لهيلاري كلينتون، عندما ذكرت أن إزاحة طنطاوي وعنان كانت فكرة السيسي، الذي بعدما تخلص من آخر الكبار الذين شاركوا في حرب أكتوبر وما زالوا يحتفظون بصورة نسبية عن الدولة المصرية المتماسكة، دخل في محطته التالية بالانقلاب على أول تجربة ديمقراطية انتخب فيها أول رئيس مدني لمصر.
في طريقه وخلال التحضير للانقلاب على الرئيس مرسي، أنجز السيسي خطوة مهمة جدا هي تحصين نفسه ضد انقلاب الجيش ضده لو تعارضت الرؤى والتصورات عن الحُكم، ليقينه أن الجيش مهما حدث له فإنه لن يمضي في تسليم مصر للصهاينة للنهاية، تمثل ذلك التحصين في تشكيل قوة الانتشار السريع التي تعد أكبر قوة خاصة في تاريخ القوات المسلحة المصرية والأكثر تسليحا.. جيش داخل الجيش..
أمام ذلك الوضع فضل من يظنون أنفسهم أصحاب مصر الأصليين انتظار الانتخابات الرئاسية، ظانين أن الفرصة ستواتي ليواصلوا السيطرة على مصر لكن عبر وجه جديد أقل حدة وصداما، لكن السيسي كان قد تحوط وكمن بالمرصاد فابتلع شفيق، وها هو يعتقل سامي عنان، وتلك لعمرك خطوة تشي أن الرجل غير عابىء بالدخول في صدام مع جناح ليس بسيطا من المؤسسة العسكرية، وأنه قد يزج بنا في "مرحلة الوحش" من اللعبة التي يلعبها بمصر والمصريين، مرحلة تدمير الجيش نفسه، وهي مرحلة دخلتها أجهزة الدولة الأمنية من فترة عبر ما عرف بالتسريبات.
الآن، ستكون التسريبات القادمة مقدمة لكارثة أخطر قد يتعرض لها جيش مصر ومن ورائه البلاد والعباد.
*********
سقوط السيسي الآن لن يكون غالبا إلا عبر آليتين: الأولى ثورة شعبية، وهذه متوقعة بل وهي الأفضل والأنجع، لكن لا يمكن التكهن بوقت اندلاعها، والثانية هي أن ينقذ الجيش نفسه ومصر من السيسي الذي ذهب بعيدا بالمؤسسة العسكرية.. أبعد حتى من طيش مبارك وامتثاله لتعليمات الصهاينة والأمريكان.