كانت زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون لتونس هذا الأسبوع؛ محور الجدال العام في البلاد. الرئيس الفرنسي الشاب الذي يسعى لتقليد منهجية أوباما في التوظيف الأقصى والمستمر لوسائل الاتصال الاجتماعي، أضفى بعدا جديدا على الزيارة؛ جعلتها مختلفة عن زيارات سابقة لرؤساء فرنسيين، خاصة بتجواله في شوارع العاصمة والمدينة العتيقة، وتوثيقه لذلك بهاتفه الخاص. غير أن هذا البعد المشهدي والتواصلي لا يمكن أن يلغي مسائل واقعية وحساسة في العلاقة بين تونس وفرنسا؛ تتجاوز اللمسات الخاصة لماكرون، حيث لا يزال عبء الإرث الملتبس بين البلدين يؤثر على العلاقة بينهما، كما تطرح التطورات في الخريطة الدولية، بصعود قوى جديدة؛ والتساؤلات حول العلاقة مع الاتحاد الأوروبي في ظل الديمقراطية التونسية الناشئة، مستقبلا مشوشا بينهما.
الملف الاقتصادي هو أحد الملفات الأساسية. وهنا يجب أن تكون لتونس رؤية واضحة، خاصة في ملف اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. من واجب الحكومة التونسية الدفاع عن المصالح العليا للبلاد، خاصّة فيما يتعلق بالمفاوضات حول هذه الاتفاقية، بما يتماشى مع الوضع التونسي الجديد، حتى لا يعاد استنساخ الشراكة التي تعود إلى سنة 1995. وضروري هنا بالنسبة للسلطات التونسية؛ القيام بعملية تدقيق وتقييم لهذه الشراكة. وهو ما سعينا إلى القيام به في ندوة نظمها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية في نيسان/ إبريل سنة 2013، وبينت كل المداخلات آنذاك أن خسائر الشراكة أكثر من أرباحها.
من واجب الحكومة التونسية الدفاع عن المصالح العليا للبلاد، خاصّة فيما يتعلق بالمفاوضات حول هذه الاتفاقية، بما يتماشى مع الوضع التونسي الجديد
الملفت للانتباه أنه توجد سياسة لتغطية العجز التجاري مع
فرنسا، مقابل تضخيمه - مثلا - مع الطرف التركي. يعكس ذلك تعدد الولاءات في السياق التونسي، وخاصة قوة اللوبي الفرنسي فيه. إذ من الواضح أن اللوبي المهيمن تونسيا لا يرى الخلاص الاقتصادي سوى في أوروبا، عبر البوابة الفرنسية.
وقد كتبت الخبيرة الاقتصادية جنات بن عبد الله على هامش الزيارة: "لدى إشرافه على افتتاح أشغال الندوة الاقتصادية الدولية التي احتضنتها تونس يوم الاثنين (29 كانون الثاني/ يناير 2018) تحت عنوان "الآفاق الجديدة للاقتصاد العالمي: أي تموقع لتونس؟"، بحضور المفكر والاقتصادي الفرنسي جاك أتالي، طمأن رئيس الحكومة يوسف الشاهد الحاضرين بمستقبل تونس حيث أكد في كلمته "أن تونس تعود إلى الخارطة الاقتصادية، من خلال تنشيط محركات النمو رغم ظرفية المالية العمومية،، مضيفا أن سنة 2018 ستكون سنة الاستثمار والمشاريع الكبرى لتحقيق نمو مستدام ومندمج.. واختيار عنوان يتساءل عن تموقع تونس في الاقتصاد العالمي، كلها مؤشرات تؤكد اعتمادها كمحرار للقيس والتعرف على مدى تقبل الاقتصاد التونسي، وتوفر شروط إرساء منطقة التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي، كمشروع تقوده فرنسا من خلال تواجد سفيرها بتونس، وتواجد سفير بعثة الاتحاد الأوروبي الذي هو فرنسي الجنسية أيضا، تحت غطاء العولمة ومزاياها الفائقة للدول العظمى".
في كل الحالات، هناك إشكال حقيقي في المبادلات التجارية، وهناك توجه داخل الحكومة التونسية للتخفيف من أثره. وتضيف في هذا السياق الخبيرة الاقتصادية جنات بن عبد الله: "استنادا إلى مؤشر العجز الجاري الذي يكشف حاجيات البلاد من العملة الأجنبية يتضح أن عجز الميزان التجاري تجاوز هو أيضا كل الخطوط الحمراء، ليبلغ 25 مليار دينار في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2017، إذا ما اعتمدنا مداخيل صادرات الشركات المقيمة المطالبة باسترجاعها حسب قانون الصرف، بما يكشف أن نسبة تغطية الصادرات بالواردات لا تمثل إلا 25 في المئة عكس ما يصرح به، وأن ما يقدمه الشاهد في تصريحاته يجانب الحقيقة، بل إن الادعاء بأن المؤشرات الأولية للصادرات هي طيبة؛ لا يزيد الوضع إلا تأزيما. والاستناد إلى استعادة السياحة والصناعات الميكانيكية لحركيتهما، فضلا عن توقعات صادرات زيت الزيتون هذه السنة، تبقى فرضيات هشة وموسمية وعاجزة عن إنقاذ التوازنات المالية الخارجية".
من المهم أن تنوع تونس علاقاتها الخارجية حتى تكون منفتحة على دول وقوى صاعدة آسيوية وأفريقية وأمريكية لاتينية
في كل الحالات،
لا بدّ من إيجاد أرضية مشتركة مع الطرف الفرنسي، بما يعزّز مصالح السوق التونسية ومصالح الفلاحين والمستثمرين التونسيين، والمهم أن يكون هناك وعي بأن استقرار تونس من مصلحة أوروبا عموما. فمن المهم أن تنوع تونس علاقاتها الخارجية حتى تكون منفتحة على دول وقوى صاعدة آسيوية وأفريقية وأمريكية لاتينية، وهو أمر طبيعي يتم على أساس التوازنات التي تخدم مصالحنا.
من جهة أخرى،
اتهامات قايد السبسي للإعلام الأجنبي، وبشكل ضمني للإعلام الفرنسي، لدى تغطيته للحراك الاجتماعي الأخير (احتجاجات رافضة لغلاء الأسعار)، ستؤثر سلبا على صورة تونس لدى الرأي العام الفرنسي. وهي ردة فعل لا تليق برجل دولة، وهي تشبه كثيرا ردة فعل النظام السابق، الذّي حمّل مسؤولية ما يحدث حينها (احتجاجات الثورة) للتعاطي الإعلامي الأجنبي مع هذه الأحداث، بدلا من إرجاعها إلى الوضع الدّاخلي.
هناك خطر حقيقي في مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، وهو ما ينعكس في تعدد المقالات السلبية في أهم الصحف الفرنسية
هناك أمور في تونس لا تطمئن الأطراف الدولية، منها تعطل الإصلاحات الدستورية وإصلاح النظام السياسي، والتشكيك في الدستور من جانب السلطات الحاليّة، وخاصة في الباب السابع من الدستور، الذّي ينظم الحكم المحلّي، إضافة إلى بطء إرساء الهيئات الدّستوريّة. ومن الواضح أن الأوساط الفرنسية قرأت وستتطلع بجدية على آخر تقرير لمجموعة "الأزمات الدولية" الذي اعتبر أن هناك خطرا حقيقيا في مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، وهو ما ينعكس في تعدد المقالات السلبية في أهم الصحف الفرنسية، بما في ذلك لوموند وليبراسيون حول الوضع السياسي ووضع الحريات.
على الطرف الفرنسي أن يعي بأن الوضع لا يمكن أن يبقى كما هو، فكلما ترسخت ديمقراطية تونس ستدافع عن مصالح شعبها أكثر. وما ورد في خطاب ماكرون أمام مجلس نواب الشعب، حول ربط المساعدات بترسيخ الفرانكفونية، سيجعل تطور العلاقات الثنائية عقبة في حد ذاتها أمام تطور الفرص في تونس. إذ إن المستقبل ليس - ولا يمكن أن يكون - للغة الفرنسية، وأي انفتاح اقتصادي لتونس نحو القوى الصاعدة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ لا يمكن أن تكون رافعته الفرنسية، بل الانكليزية أو الإسبانية.