دخلت عملية
غصن الزيتون عفرين أسبوعها الرابع، وتسير كما هو مخطط لها دون عراقيل أو صعوبات كبرى ميدانية أو سياسية، ورغم أن الجدول الزمني يبدو مفاجئا للبعض، إلا أنه يأتي منسجما مع الخطة العامة الأساسية للعملية التي تلحظ جدولا زمنيا مرنا يقارب الثلاثة أشهر، ما يعني إننا ما زلنا في الجزء أو الثلث الأول من العملية.
الجدول الزمني المرن لحظ الطابع التدريجي للعملية المتعلق بالطبيعة الجغرافية الجبلية والوعرة للمدينة، وضرورة التحرك أو التنقل التدريجي الحذر والواعي، من الخارج للداخل، غير أن الأهم من ذلك ما يتعلق بالقرار الجوهري والمصمم للقيادة السياسية العسكرية باستخدام هادئ للقوة عدم استخدام مكثف لها، حرصا على عدم إيقاع الضرر بالمدنيين وممتلكاتهم ولتهدئة ردود الفعل الإقليمية والدولية، خاصة الغربية منها.
علماً بأن اتباع
تركيا النموذج الغربي في الموصل أو الرقة أو حتى عين العرب كوباني كان ليأتي بالنتيجة الحاسمة في مدى زمني قصير جدا، ولكنه كان ليترك المدينة مدمرة مع عدد كبير من الضحايا المدنيين تماما كما حصل في المدن الثلاث السابقة الذكر التي ما زالت خاوية وخالية من معظم سكانها وأهلها حتى الآن.
رغم الاستخدام الحذر والهادئ للقوة والانتقال التدريجي من الضواحى الجبلية الوعرة نحو المدينة، إلا أن الحصيلة مرضية يجري الحديث عن مقتل 1449 من مقاتلي
بي كاكا السوري، واستعادة 54 نقطة موزعة ما بين قرى بلدات مزارع وتلال استراتيجية مع خسائر محتملة سواء ضمن صفوف الجيش التركي أو الجيش السوري الحر، رغم الأساليب المثيرة للجدل التي يتبعها المسلحون والتخفي وسط المدنيين واستهداف الجنود من وسطهم، كما جرى في الحادثة التي أدت إلى مقتل 11 جنديا تركيا السبت الماضي.
إذن ميدانيا، تسير العملية دون مشاكل أو عراقيل جدية، وحسمها مسألة وقت فقط، في ضوء التقدم التدريجي ولكن المتواصل، وباتت مسألة وقت منذ اليوم الأول لها بحسب كل الوقائع السياسية والميدانية.
فلا خيار أمام تركيا والجيش السورى الحر إلا الانتصار، ولا مفر أو مهرب من الهزيمة لمسلحي بي كاكا، بعدما باتوا معزولين، مع تخلى حلفائهم عنهم. وهذا ينقلنا مباشرة إلى المضامين أو الوقائع السياسية للعملية بعد عملية أربعة أسابيع تقريبا على انطلاقها.
سياسيا، ما زال الاصطفاف السياسي والجماهيري مستمر في تركيا، ثمة معارضة أو معارضات من هنا وهناك، ترفض أو تشكك في العملية وأهدافها، كما في أي دولة ديمقراطية، إلا أن ثمة أغلبية أو كتلة شعبية راسخة تؤيد وتدعم العملية أهدافها وواثقة من الحسم والنصر، وهو أمر واضح جدا، ويمكن بسهولة ملاحظته من متابعة ردود الفعل الرسمية والشعبية.
سياسيا، أيضا وفي السياق الداخلي، كان لافتا دعم رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو للعملية، ودعوة الشعب للاصطفاف خلف الرئيس والجيش فيها إلى حين إنجازها والانتصار فيها.
هذا الموقف كانت له تداعيات إيجابية في صفوف الحزب الحاكم، والشارع التركي بشكل عام، نظرا للاحترام والتقدير الذي يتمتع بهما السياسي والأكاديمي البارز لدى شرائح شعبية وجماهيرية مختلفة.
رد الفعل الشعبي في مناطق الجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية كان لافتا أيضا، فلا احتجاجات ولا تظاهرات ولا تجاوب مع الدعوات للتظاهر والتخريب، كما جرى في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، عندما سعى حزب الشعوب الديموقراطية لتحريض الشارع في تساوق مع المسعى الأمريكي لحشد العالم كله في معركة عين العرب كوباني، لتبييض صفحة بي كاكا السوري، وطمس الطابع الجوهر "الإرهابي" له بحجة محاربة داعش.
سياسيا، ولكن في السياق الخارجي، بدا واضحا الدعم أو التأييد الروسي للعملية ضمن سياق أوسع من العمل أو السعي لتفاهمات بعيدة المدى مع تركيا في سوريا والإقليم بشكل عام، وبما أن روسيا هي القوة القائمة بالاحتلال والمتحكمة بأمور كثيرة في البلد، فقد انعكس هذا مباشرة عبر تقليص وتيرة التنسيق والتفاهم بين النظام أو بقايا النظام وتنظيم بي كا كا، في عفرين وحتى في شرق الفرات مع وضع روسيا للتنظيم في الخانة أو المربع الأمريكي المنافس.
وليس بعيدا عن النظام وبي كا كا، يمكن الحديث أيضا عن الموقف الإيراني المعارض للعملية، ولكن العاجز عن عرقلتها أو مراكمة صعوبات كبيرة أمامها أو حتى شن حملة سياسية إعلامية مكثفة جدية ضدها في ظل الحرص على قنوات التواصل مفتوحة مع أنقرة وموسكو، رغم أن الانزعاج الإيراني وصل إلى حد إشارة موقع عصر إيران-الأحد 11 شباط/ فبراير- إلى أن التصعيد والاشتباك الأخير مع إسرائيل في سوريا يعود في جانب منه إلى الاعتراض على التفاهم الروسي التركي، وتهميش وعزل إيران فى عفرين تحديدا.
إلا أنه ليس هناك ترجمة على الأرض لهذا الاعتراض أو قدرة للتأثير على مجريات العملية والشمال السوري بشكل عام، وربما البلد كله أيضا، في ظل التفرد الروسي والميل للتفاهم مع أنقرة على حساب طهران.
في السياق السياسي، يمكن الإشارة إلى تراجع النقد أو الرفض الغربي الأوروبي تحديدا للعملية، ورغم إبداء التحفظ من هذا الطرف أو ذاك، إلا أن التصميم التركي على المضي قدما حتى النهاية كما الحاجة لأنقرة في ملفات ضاغطة إضافة إلى الاقتناع بحاجات أمنية مشروعة لتركيا.
كما قال أمين عام الناتو ساهم في تخفيف وتلطيف حدة الخطاب الأوروبي، إضافة طبعا إلى الأداء التركي الحذر والابتعاد عن إيقاع الأذى بالمدنيين وممتلكاتهم، رغم انخراط دول أوروبية مهمة ومركزية في نموذج الموصل- الرقة التدميري، ناهيك عن شرعنة الاستعانة بـ"إرهابيين" موصوفين، في قتال "إرهابيين" آخرين وهو ما يدحض منهجيا و يفرغ أي انتقاد لتركيا من محتواه الأخلاقي والسياسي.
في السياق السياسي الغربي يبقى الموقف الأمريكي طبعا هو الأهم، كونه يقف ولو بشكل غير مرئي خلف التحفظ أو الامتعاض الغربي والأوربي من العملية، وعموما، فإن واشنطن وعلى طريقتها أخذت في التكيف أو التعاطي مع الأمر الواقع الجديد، تماما كما حصل في عملية درع الفرات صيف العام 2016.
وبدأت في تغيير لغتها، ودعم حق تركيا المشروع في الدفاع عن نفسها وأمنها، لكن مع استدراكات ومطالبات بإنهاء العملية بسرعة، أو حتى بطرح خطط لإغراء تركيا مثل حكاية المنطقة الأمنية بعمق 30 كم التي تكمن في تفاصيلها الغامضة عشرات بل مئات الشياطين.
ومع ذلك، وفي الجوهر، ثمة تسليم أمريكي بالوقائع الجديدة للعملية، ومحاولة لتخفيض السقف أو تقليل المكاسب التركية، ومنع الانتصار الحاسم عبر الدعوة لانسحاب تنظيم بي كا كا من عفرين، وربما حتى من منبج، مع بقاء مجالس مدنية محلية فيها اختارها التنظيم نفسه، وتخضع لحمايته وهيمنته.
في كل الأحوال، وكما قال وزير الدفاع التركي نور الدين جانيكلي في بروكسل، صباح الأربعاء، فسيتم المضى قدما في العملية حتى النهاية حتى الانتصار الحتمي، ولا مساومة بين عفرين ومنبج، أو دمجهما معا في سلة واحدة لابقاء النفوذ المدني والسلطوي لبي كا كا فيهما.
والمعادلة واضحة، إما الانسحاب أو مواجهة الهزيمة المحققة، والمعادلة ستكون بعد ذلك بين غرب الفرات وشرقها، مع ضمان أو التاكد من إجهاض فكرة الكيان الانفصالي الشوفيني الاستبدادي والمليشيا الحدودية المدعومة أمريكيا، وتعميم نموذج درع الفرات المدني النهضوي التنموي على عفرين ومنبج وكامل المنطقة الممتدة من الفرات حتى المتوسط بحماية الجيش السورى الحر، وإدارة مجالس مدنية محلية من الناس ولهم.
والتفرغ بعد ذلك لإفشال المشروع الأمريكي الانفصالي شرق الفرات، وفي عموم سوريا، مع التمسك بعملية سياسية عادلة بروح إعلان جنيف، وبالتأكيد دون الأسد ونظامه.
باحث وإعلامي