توقع باحثون ومحللون هبوب موجات جديدة من "الربيع العربي"، ستكون أشد عنفا وثورية من سابقتها التي تمكنت من إسقاط رؤوس عربية حاكمة، لكنها فشلت في إسقاط الأنظمة الحاكمة.
ووفقا لتلك التوقعات المستندة إلى جملة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن دوائر تلك الموجات ستتسع لتشمل مع الدول التي مر بها الربيع العربي الذي تم إجهاضه، دولا عربية أخرى لم تستفد من التجربة برمتها.
في هذا السياق، رأى أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الهاشمية الأردنية، جمال الشلبي، أن الموجات القادمة من "الربيع" أو "الخريف" العربي ستأتي على دول عربية، لم تشهد الموجة الأولى من ذلك الحراك العاصف، مشيرا إلى أن دول الخليج العربي وغيرها من الدول مرشحة بقوة لذلك.
وقال الشلبي لـ"عربي21"، إن الموجة الأولى من الحراك العربي وقعت على حين غرة من الأنظمة العربية، في الوقت الذي كانت العديد من المؤسسات الغربية تتوقع حدوث ذلك، من غير أن تكون قادرة على التنبؤ بزمان ومكان حدوثه.
وأوضح الشلبي أن تلك المؤسسات توقعت حدوث حراك شعبي رافض للسياسات السائدة ويدعو للتمرد عليها، نتيجة للاحتقان السياسي المتزايد، وتفشي الاستبداد في كثير من الدول العربية، وتوسع دوائر الفساد السياسي والاقتصادي، واتباع سياسات إفقار الشعوب وحرمانها.
وتوقع الشلبي أن تكون الموجات القادمة من الحراك العربي، أكثر مأساوية وسوداوية، ولن تستقر الأوضاع للقوى الثورية حتى تمر بمراحل متلاحقة ربما كفصول السنة المتعاقبة، وستشتد ضربات الأنظمة الحاكمة، لمواجهة تلك الحراكات وقمعها، لكنها ربما بعد عدة عقود ستسفر عن أنظمة أكثر استقرارا، ترعى منظومة الحقوق والحريات وتعلي من شأن الإنسان.
وتعليقا منه على موقف الدول الغربية من الأنظمة العربية الحاكمة، وصف الشلبي تلك الدول بأنها غير جادة في دعوتها إلى الديمقراطية، وهي تستخدمها كورقة للضغط على تلك الأنظمة، ولا تريدها ديمقراطية كاملة، بل تريدها ديمقراطية منقوصة (نصف ديمقراطية) كأداة لاحتواء الاحتقان السياسي، والغضب الشعبي من جهة، ولمواجهة الانتقادات الشديدة الموجهة إليها كراعية وحليفة لأنظمة ديكتاتورية، من جهة أخرى.
اقرأ أيضا: هل كان الربيع العربي حراكا شعبيا بريئا؟.. خبراء يجيبون
وأبدى الشلبي تحفظه الشديد على إطلاق وصف "الثورات العربية" على الحراكات الشعبية التي قامت، لافتا إلى أنها لم تكن لها قيادات معروفة، وأننا إلى اليوم لم نعرف من هم قادة الثورة في تونس، أو قادة ثورة 25 يناير في مصر، وكذلك بقية الهبات والحراكات الشعبية في الدول العربية التي قامت فيها.
ولفت الشلبي إلى أن الثورات التي قامت في أوروبا، كالثورة الإنجليزية والفرنسية والبلشفية، كانت لها قيادات معروفة، حددت الأهداف التي تسعى لتحقيقها قبل قيامها، فبوصلتها واضحة ومحددة تماما.
وشدد الشلبي على أن الفعل الثوري السياسي، لا يمكن إنجازه إلا بنهضة فكرية ابتداء، فالسياسي لابد أن يستمد رؤيته من الفيلسوف والمفكر الذي يشتغل على بناء العقلية المستنيرة القادرة على تشكيل الرؤى وبناء الإنسان القادر على القيام بالثورة وتحمل مسؤولياتها وتبعاتها.
بدوره، رأى الأكاديمي والكاتب الأردني، عبد الله فرج الله، أن "للسنن الكونية قوانينها الثابتة التي لا تتغير، ولا تجامل أحدا، ولا تخلف موعدا، ومنها أن الباطل أضعف ما يكون في أشد حالات استبداده وظلمه وطغيانه، فحين يبلغ ذروة الظلم والقمع يبدأ تقهقره وتراجعه، بل المبالغة في الطغيان تعكس حالة الخوف الشديد التي يعيشها، بحيث يحسب كل صحية عليه".
وتابع فرج الله حديثه لـ"عربي21": "حينئذ يعمد الباطل للمزيد من البطش الذي لا يكاد ينجو منه رفقاء ظلمه وأدوات بطشه، حتى يصل إلى حالة من التخبط الأعمى التي ستدني نهايته وتعجل في حتفه، وهذا شأن الطواغيت، وهذه سنة لا تتخلف".
وأشار فرج الله إلى أن "صمت الناس في ميادين الترغيب القائم على الكذب والدجل أطول من صبرهم على الخوف والتجويع والتفقير والقهر. فإن الفقر في عرف الحقيقة كفر، والجوع يخرج المرء عن طبيعته"، محذرا من أن "الظلم والاستبداد يفجران كوامن الغضب كالبراكين التي لا يعرف لها موعد".
واعتبر فرج الله "حالة الاستخفاف التي تعيشها أنظمة ما بعد ثورات الربيع بالمواطن العربي، إهمالا وتطنيشا وقهرا، وكأنها تعاقب ثورته وانتفاضته، ستزيد من حالة الغليان التي تكمن الآن داخل الذين ثاروا وحققوا ثم أجهضت ثورتهم وخُطفت".
وجوابا عن سؤال: هل ستسمح الديكتاتوريات المتوحشة بهوامش من الحرية تسمح بقيام ثورات جديدة؟ قال الكاتب والأكاديمي فرج الله: "بالتأكيد ستعمل أنظمة ما بعد الربيع العربي – وإن كانت هي التي كانت من قبل - جاهدة على تجفيف منابع الثورات، وستطارد حتى الأحلام التي تبشر بها، وستعمل جاهدة حتى لا يتكرر ذاك المشهد الرائع الذي تهاوت فيه عروش، واهتزت فيه زعامات".
وتوقع فرج الله أن خوف تلك الأنظمة من تكرار المشهد سيدفعها لمزيد من الديكتاتورية والبطش، وهو ما يبشر بقرب زوالها، "فمن الصعب أن تقاد الشعوب بالقهر بعد أن عرفت ما يمكن أن تفعله إن سلكت طريق الجرأة، وملكت زمام المبادرة وتسلحت بالإرادة".
اقرأ أيضا: إيكونوميست: أنظمة عربية قمعية تدعو للعلمنة ومحاربة الإسلاميين
من جانبه، قال أستاذ الأخلاق السياسية بجامعة حمد بن خليفة في قطر، محمد بن المختار الشنقيطي، "أنا أميل إلى وضع ثورات الربيع العربي ضمن سياق تاريخي، وتشبيهها بالثورات الأوروبية القديمة، بدل الموجات الديمقراطية الحديثة في القرن العشرين".
وعلل الشنقيطي ذلك بقوله "مما تتسم به المجتمعات المسلمة، خصوصا العربية منها، من انشطارات في الهوية وما تحمله على أكتافها من أعباء التاريخ، يجعل التحول السياسي الذي تشهده اليوم أشبه بالثورات الأوروبية القديمة منها بالتحولات الديمقراطية في القرن العشرين".
وأضاف لـ"عربي21": "فثورات الربيع العربي أشبه ما تكون بثورات القرن السابع عشر في انجلترا، والثامن عشر في أمريكا وفرنسا، والثورات في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، وهذا يعني حاجة الشعوب العربية إلى طول النَّفَس والتشبث بالأمل، والاستعداد لرحلة طويلة إلى الحرية السياسية".
ووصف الأكاديمي والمحلل الموريتاني الثورات العربية اليوم بأنها "على مفترق طرق، وربما يكون الربيع العربي _ في لحظة التأرجح الحالية _ يشبه حال أوروبا عام 1815، أي بعد انكسار الثورة الفرنسية، ودخول قوى التغيير الأوروبية حالة من الارتباك الظرفي".
ووفقا للشنقيطي فإن "حالة الارتباك الحالية يمكن أن تسفر عن اتجاهات ثلاثة في المستقبل، أولها: استمرار الحرب المفتوحة بين الحكام والمحكومين لعقود، والتي ستنهك المستبدين، وتدمر الأوطان، وتهجِّر الشعوب، وثاني تلك المسارات المحتملة اتجاه الإصلاح الوقائي المستمد من عبرة التجربة التاريخية الانجليزية، وقد بدأت بوادر هذا الاتجاه في المملكة المغربية منذ بدايات الربيع العربي، وهذا المسار متاح أمام الملكيات العربية أكثر مما هو متاح أمام "الجمهوريات العسكرية".
أما ثالث تلك المسارات الممكنة في مستقبل الثورات العربية فهو مسار "الانقلاب العسكري الديمقراطي"، وشروطه ثلاثة: "أن يكون الانقلاب العسكري موجها ضد سلطة متسلطة مستبدة لا ضد سلطة شرعية منتخبة. وأن يأتي استجابة لحراك شعبي مُطالب بالديمقراطية، بمعنى أن يكون تحرك الجيش تابعا لحراك الشعب، لا العكس. وأن يتولى الجيش السلطة لفترة قصيرة، ثم يسلم السلطة لسلطة مدنية اختارها الشعب في انتخابات حرة ونزيهة"، بحسب الشنقيطي.
وختم أستاذ الأخلاق السياسية حديثه بدعوة "القادة المستبدين إلى عدم الاغترار بتعثر الثورات العربية اليوم، لأن عبرة التاريخ تدل على أن فشل الثورات في بداياتها كثيرا ما يتحول زادا لنجاحها في المستقبل. ففشل الثورات الإنجليزية منتصف القرن السابع عشر قاد إلى نجاحها عام 1688، وانهيار الثورة الفرنسية بعد عقد من بداياتها تحول إلهاما لاستمرارها خلال عقود حتى أسست جمهوريتها المأمولة، وفي الماضي عبرة للحاضر وزاد للمستقبل".
ما الذي حققته وأخفقت فيه ثورة فبراير الليبية؟