توقف
إضراب أساتذة التعليم الثانوي أم لم يتوقف.. الصورة لا تزال مشوشة.. الأمين العام للاتحاد العام
التونسي للشغل نور الدين الطبوبي أعلن الاثنين، بعد قرار الهيئة الإدارية للتعليم الثانوي، أن
الإضراب توقف، وأن الأساتذة سيباشرون عملهم، وسيمكنون إدارات المعاهد الثانوية من نتائج الامتحانات التي يحجبها الأساتذة عن الإدارات منذ أشهر، ورئيس الحكومة يوسف الشاهد يهني الطبوبي ويشكره على هذا القرار.
لكن التونسيين لم يفرحوا كثيرا بقرار عودة أطفالهم للمدارس، حتى فوجئوا بالكاتب العام لنقابة التعليم الثانوي يعلن أن الإضراب لم يتوقف، وأن الأساتذة لن يباشروا العمل ولن يسلموا نتائج الامتحانات للإدارات، ليستمر الجدل والاحتقان السياسي في البلاد، ولينتقل الخلاف من خلاف بين اتحاد العمال والحكومة والرأي العام؛ إلى خلاف داخل الاتحاد نفسه، بين قيادته العليا وقياداته القطاعية.
منذ أشهر والجدل حاد في تونس، بعدما قررت الجامعة العام للتعليم الثانوي في
اتحاد الشغل الامتناع عن تسليم نتائج الامتحانات للإدارات حتى تستجيب الحكومة لمطالبها بزيادات في رواتب الأساتذة، وهي مطالب تراها الحكومة مشطة وترفض الاستجابة لها. لم تقف النقابة عند هذا الحد، بل زادت من حدة تصعيدها، إذ دخلت الأسبوع الماضي في إضراب مفتوح عن العمل، أدخلها في مواجهة حادة مع الرأي العام الذي بات يميل ميلانا واضحا ضدها، وتعالت الأصوات من مختلف المشارب الفكرية والسياسية بالإدانة لسلوك النقابة ولإضراب أساتذة التعليم الثانوي، الذي جاء في فترة حساسة من العام الدراسي.
وقد أثار سلوك
اتحاد الشغل سخطا واسعا في الشارع التونسي وفي صفحات التواصل الاجتماعي، فضلا عن وسائل الإعلام التقليدية.. فكثير من التونسيين باتوا يعتبرون الاتحاد مجموعة "بلطجية" تتخذ من تلاميذ المعاهد رهائن للمساومة والضغط على الحكومة، في حين أدان مواطنون آخرون كلا من الحكومة والمركزية النقابية بسبب عجزهما عن التواصل وحل المشكلات العالقة بينهما، وذلك على خلفية الخشية من ضياع سنة دراسية على تلاميذ المعاهد الثانوية والإعدادية.
مأزق اتحاد الشغل
وجد اتحاد الشغل نفسه في مأزق سياسي بين المطالبة بإقالة الحكومة، وبين دعوتها في نفس الوقت للاستجابة لمطالبه بزيادة الرواتب.. فكيف تنسجم الدعوة للإقالة مع انتظارالاستجابة للمطالب من قبل من تطلب رأسه؟ والآن استفحل المأزق بدخول الاتحاد في أتون الصراع الداخلي بين أمين عام يخرج للناس بخبر سار ينتظرونه، وبين الكاتب العام لجامعة التعليم الثانوي، الذي ينقض قرار رئيسه ويعلن استمرار الإضراب وحجب الأعداد.
سياسيا، دخل الاتحاد العام التونسي للشغل منذ أسابيع معركة كسر عظم مفتوحة مع حكومة يوسف الشاهد. إذ طالب الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي، في الاجتماعات المغلقة وفي حوارات صحفية علنية، بإقالة الحكومة واستبدالها بحكومة جديدة، معتبرا الحكومة الحالية حكومة فاشلة وعاجزة عن النهوض بالوضع الاقتصادي والاجتماعي للتونسيين، ومحملا إياها مسؤولية غرق البلاد في الديون وتراجع الدينار والارتفاع المشط في الأسعار.
أما ميدانيا، فقد دخلت نقابة التعليم الثانوي في التصعيد للحدود القصوى، الأمر الذي وتر الأوضاع في البلاد، حتى بات مئات الآلاف من أولياء التلاميذ يخشون من خسارة سنة دراسية بسبب الخلاف بين النقابة ووزارة التعليم. ورفضت الوزارة الاستجابة لمطالب الزيادة في الرواتب حتى تتراجع نقابة التعليم الثانوي عن حجب الأعداد عن الإدارات. وردت النقابة بالإضراب عن العمل طيلة الأسبوع الماضي.
الدخول في إضراب مفتوح دفع وزارة التعليم للتهديد بحجب الرواتب عن المدرسين حتى يتراجعوا عن حجب الأعداد، ووجدت الحكومة نفسها في وضع مريح نسبيا، فلم يعد بيد اتحاد الشغل وسائل أكثر للضغط، كما إن الرأي العام قد انقلب ضد الاتحاد في أغلبيته الكبيرة. وما دام الاتحاد يطلب رأس الحكومة فما الذي يجعلها تتنازل وتستجيب لمطالبه؟.. إنه المأزق.
جردة حساب
قبل الثورة التونسية، كانت القيادة المركزية للاتحاد العام التونسي للشغل خاضعة خضوعا تاما لنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وكان النظام السابق قد اشترى ولاء القيادات النقابية بتوزيع مغانم كثيرة عليها، من قطع أراضي في مناطق عمرانية مرتفعة الأثمان ومن رشى مادية واعتبارية متعددة الأشكال والألوان، جعلت القيادة النقابية خاضعة خضوعا تاما للنظام السابق، في حين كانت القيادات الوسطى والدنيا متمردة على القيادات النقابية العليا. واستمر ولاء قيادة المركزية النقابية للنظام السابق حتى يومين فقط قبل هروب الرئيس المخلوع من تونس. فبعد أن تبين للمركزية النقابية أن النظام ينهار وأن الارتباك بات سيد الموقف، قفزت القيادة النقابية العليا متأخرة إلى جوار المطالبين برحيل النظام.
بعد الثورة، ورغم تاريخها الطويل في الولاء للحاكم، استأسدت النقابة وقياداتها العليا وتنمرت، وصارت قوة مرعبة لمختلف الحكومات، التي تعاقبت على حكم تونس ما بعد الثورة. وشهدت البلاد ذروة الحركية الاحتجاجية للنقابات في عامي 2012 و2013، إذ خاض الاتحاد العام التونسي للشغل إضرابين عامين في سنة واحدة، رغم أن تونس لم تشهد طيلة نحو ستين سنة من استقلالها سوى إضراب عام واحد، وذلك سنة 1978، وهو الإضراب الذي قتل فيه المئات، واعتقل الآلاف من النقابيين والمعارضيين السياسيين لنظام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
غير أن الاتحاد بعد الثورة، وتحت تأثير قياداته اليسارية المعارضة بشراسة لحكم الإسلاميين، الذين وصلوا السلطة بالاقتراع الحر المباشر، شن حملة احتجاجات واسعة ضد حكم الترويكا في العامين 2012 و2013، بلغت أكثر من 35 ألف إضرابا قطاعيا، فضلا عن إضرابين عامين، وهو ما تسبب في شلل شبه كامل للعديد من القطاعات الاقتصادية..
وأغرت القوة والنفوذ اللذان بات اتحاد العمال يتمتع بهما بعد الثورة؛ النقابيين بأن صاروا شوكة في حلق كل حكومة، حتى أدى ذلك إلى تدهور وضع الاقتصاد، وارتفاع الأسعار بسبب قلة الإنتاج، وانهيار الدينار، وغرق البلاد في الديون الخارجية.
تغول النقابة يثير مخاوف التونسيين
بعد إخراج حركة النهضة والترويكا من الحكم، مطلع العام 2014، إثر توقيع دستور تونس الجديد، تناقصت حدة الإضرابات والاحتجاجات إلا أنها لم تتوقف. وصار النقابيون قوة مخيفة لأي حكومة، وصار للاتحاد حق نقض العديد من القرارات الحكومية، ما عطل جميع الإصلاحات الاقتصادية.
أخطر من ذلك صارت العديد من
النقابات القطاعية تتصرف في الدولة تصرف المالك في رزقه، وصار بعض النقابيين يدافعون عن نظرائهم حتى ولو تورطوا في أعمال سرقة ونهب، كما حصل مع عمال المطار، الذين تورط بعضهم في سرقة أمتعة المسافرين، وتدخلت النقابة القطاعية لمنع إقالتهم من وظائفهم أو محاسبتهم على ما اقترفت أيديهم من جرائم.
ولا يبعد تصرف النقابات العمالية عن تصرف نقابات الأمن من حيث "البلطجة" واستعراض القوة. إذ أقدمت العديد من النقابات الأمنية على مداهمة محاكم وإخراج أمنيين من تحت سلطة القضاء بالقوة العارية، رغم تورط أولئك الأمنيين في جرائم تعذيب أو اعتداء على مواطنين.. في حين تدخل اتحاد العمال في أكثر من مناسبة للدفاع عن موظفين اخترقوا القانون أو تورطوا في جرائم مخلة بالشرف، وسعت بعض النقابات لتعويض دور الإدارة بالاعتراض المستمر على تنصيب المديرين العامين للمؤسسات والشركات الحكومية.
ونجحت نقابات عمالية عديدة في "توريث" الوظائف لأبنائهم وبناتهم على حساب بقية أبناء الشعب، كما اعترضت العديد من النقابات، بعد الثورة، على عودة المحكومين سياسيا في عهدي بورقيبة وابن علي من المتمتعين بالعفو التشريعي العام لوظائفهم، بزعم الاعتراض على "أخونة" الدولة والوظيفة العمومية، رغم أن أولئك الأشخاص قد حصلوا على إذن حكومي وقرارات قضائية ملزمة بإعادتهم إلى وظائفهم. لكن النقابات فرضت الأمر الواقع بالقوة والبلطجة، ومنعت المعارضين السابقين من دخول الوظيفة.
ازدواجية المواقف النقابية
في زمن الرأسمالية المتوحشة لا بد من وجود نقابات قوية تدافع عن الفقراء.. لكن النقابات قد تتحول في بعض السياقات التاريخية المخصوصة إلى عدو للفقراء ولأوطانهم.
فمثلا، يتهم النقابيون الحكومة التونسية والائتلاف الحاكم (نهضة/ نداء) بإغراق البلاد في الديون الخارجية، لكن ينسى أولئك النقابيون أن الحكومة ما لجأت للاقتراض من الخارج إلا للاستجابة لطلباتهم المشطة في الزيادات في الرواتب والامتيازات.
فقد تضاعف الدين التونسي الخارجي منذ الثورة وفاق اليوم أكثر من 65 مليار دينار، وبلغت خدمة الدين الخارجي وحدها نحو 20 في المئة من ميزانية البلاد في العام 2017. وما حصل هذا الارتفاع الكبير في الديون الخارجية، وما يترتب عليها من فوائض وخدمات مشطة، إلا بسبب نقص الإنتاج مقابل الزيادات المتتالية في الرواتب والأجور، ما جعل البلاد تستهلك أكثر مما تنتج، وتغطي النقص الحاصل للمالية العمومية بالقروض الخارجية.
ولا يتوانى النقابيون في تحميل الحكومة مسؤولية التداين الخارجي والداخلي، دون أن يوجهوا إلى أنفسهم أصابع الاتهام. فقد كانت حكومة الترويكا الأولى والثانية تطالب التونسيين بتكبير الثروة قبل المطالبة باقتسامها، لكن اتحاد الشغل لم يلتفت لذلك، واعتبر الوقت مناسبا للمطالبة بالزيادات، مستعرضا قوته في وجه الحكومات المتتالية، ما جعلها تلجأ لشر القروض دفعا لشر الفوضى والتوقف التام لعجلة البلاد بسبب الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات العشوائية.
ولا ينسى التونسيون صور الجدار الحجري الذي أقامه فوضويون يساريون على سكة القطار في منطقة قفصة لمنع نقل الفوسفاط من منطقة الحوض المنجمي إلى مصانع التكرير. ويعرف التونسيون أن تلك الاحتجاجات تمت تحت سمع النقابات وبصرها وبتأييد منها. وتسببت تلك الاحتجاجات الفوضوية في خسارة تونس لمليارات الدينارات، كانت في أمس الحاجة إليها لترقيع ميزانيتها، بدلا من اللجوء للقروض الدولية.
رغم تقصير حكومة يوسف الشاهد في محاربة الفساد، وفي إلزام نفسها بالتقشف في وضع اقتصادي صعب، إلا أن كثيرا من التونسيين يأملون أن تنجح في دفع اتحاد الشغل لوقف الإضرابات والاحتجاجات، بما يؤدي إلى إعادة آلة الاقتصاد التونسي إلى العمل بطاقتها القصوى.