يهل علينا شهر أيار/ مايو، وتهل معه ذكرى أليمة على نفوسنا كعرب
ومسلمين، نكبة الأمة التي بدأت عام 1948 وتتوالى تبعاتها حتى يومنا هذا. نتذكر ذلك
اليوم المشؤوم الذي انتزع فيه قلب الأمة العربية، واغتصبت فيه أرضنا في
فلسطين
أمام أعين العالم أجمع الذي باركه، بل وسارع من خلال مجلس الأمن، الذي أنشئ خصيصا
لتحقيق أهداف الدول الكبرى المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية، مثلما سارعت
الدول الاستعمارية، للاعتراف بهذا الكيان الغاصب الذي زرع على أرضنا العربية، وكان
أول المباركين والمعترفين به الاتحاد السوفييتي تلته الولايات الأمريكية المتحدة،
وليس العكس كما يظن الكثيرون. لقد تكالب الشرق والغرب على طعن الأمة في ظهرها،
القريب منها قبل الغريب. فلولا تآمر العرب لما استطاع الغرب من تنفيذ مؤامرته في
فلسطين العربية..
لم
يكن زرع هذا الكيان الصهيوني وليد ذلك اليوم البغيض، بل يعود لقرن من الزمان، منذ
وعد
بلفور المشؤوم الذي أصدرته الحكومة البريطانية؛ لإنشاء وطن قومي لليهود على
أرض فلسطين العربية، وذلك في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1917.. وعد من لا
يملك لمن لا يستحق، وحققت لهم هذا الوعد بالتضافر مع باقي الدول الاستعمارية
الأخرى.. منذ الرابع عشر من أيار/ مايو عام 1948، يعيش الفلسطينيون في مسلسل لا
ينتهي من المعاناة والعذاب وسرقة المزيد من أراضي فلسطين التاريخية من قِبل العدو
الصهيوني الذي استباح دماءهم وأعراضهم وأموالهم، ولم يتوقف نضال الفلسطينيين ضده
طيلة السبعين عاما الماضية، ولم يتوقف تآمر الحكام العرب ضد كفاح الشعب الفلسطيني،
ولم ينصفه المجتمع الدولي، ولم يرجع له حقوقه المسلوبة ولا أرضه المغتصبة. فالقوى
الكبرى، وعلى رأسها أمريكا، تدعم وتساند الكيان الصهيوني، والحكام العرب موالون
لها وحراس لحدوده. وقد قالها السيسي صراحة في إحدى لقاءاته التلفزيونية: "لن
نسمح بأن تكون سيناء الحديقة الخلفية لأي عمليات إرهابية ضد جارة لنا".
تاجر
الحكام العرب كلهم بلا استثناء بالقضية الفلسطينية أمام شعوبهم المتعلقة بفلسطين،
منذ عهد جمال عبد الناصر حتى الآن، ليثبّتوا أركان حكمهم ودعائم ملكهم. ولكن ما
كان يجرى وراء الكواليس شيء آخر مختلف تماما ظهر للعلن بعد سنوات من الخداع
والتضليل في اتفاقيات سلام أبرمت مع العدو الصهيوني، ووقعت منظمة التحرير
الفلسطينية اتفاقية أوسلو في الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1993 مع العدو
الصهيوني، والتي بموجبها تم الاعتراف بالكيان الصهيوني، وأسقطت بند الكفاح المسلح
لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر من ميثاقها القومي، مقابل سلطة وهمية لم تكن
أكثر من تنسيق أمني بينها وبين العدو الصهيوني. ووعد الاتفاق بإقامة دولة لم تر
النور، بل رأى الفلسطينيون مزيدا من سرقة أراضي تلك الدولة المزعومة وإقامة
المستعمرات (المستوطنات) عليها، حتى تقلصت مساحة الأراضي المتبقية للفلسطينيين إلى
أقل من 20 في المئة من أرض فلسطين التاريخية! كما أدت اتفاقية أوسلو الملعونة
لمزيد من القتل والاعتقالات لأبناء الشعب الفلسطيني المناضل تحت ذريعة التنسيق
الأمني مع سلطة الاحتلال، فكانت انتفاضة الأقصى في الثامن والعشرين من أيلول/
سبتمبر عام 2000 التي أعادت روح المقاومة للشعب الفلسطيني برعاية الزعيم الراحل
ياسر عرفات؛ الذي عاد من أمريكا محبطا بعد اجتماع كامب ديفيد مع رئيس وزراء الكيان
الصهيوني "إيهود باراك"، برعاية الرئيس الأمريكي "بيل
كلينتون"، وتأكد له أن لا جدوى من اتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني، وأنها كلها
كانت أوهاما سرعان ما تبخرت وطارت في الهواء بعد أن عقدت عليها آمالا عريضة بإقامة
الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم..
آمالا عاش عليها الفلسطينيون على مدار سبع سنوات، منذ اتفاقية أوسلو، فلما
استيقظوا وجدوها أضغاث أحلام، وأن الواقع يحتم عليهم العودة للنضال لتحرير فلسطين،
فقاد الراحل عرفات بنفسه الانتفاضة بالتزامن مع ميلاد حركة المقاومة الإسلامية
حماس، والتي لم تتخل عن الثوابت الفلسطينية وعودة أرض فلسطين بالكامل من البحر إلى
النهر، ولا سبيل لذلك إلا عن طريق المقاومة المشروعة، لتبدأ مرحلة جديدة من النضال
الفلسطيني؛ لم تنته بحصار عرفات وقتله بالسم عام 2004، عقابا له على انتفاضة
الأقصى، ولم تتوقف بانسحاب العدو الصهيوني من قطاع غزة تحت وطأة المقاومة، والذي
انتقم باغتيال كبار قيادات حماس، مثل الشيخ أحمد ياسين الذي أيقظ الأمة، والدكتور
عبد العزيز الرنتيسي، وغيرهما، وشن أربعة حروب ضروس على القطاع، وفرض حصارا شاملا
برا وبحرا وجوا على الشعب الفلسطيني في غزة، بعد فوز حماس في الانتخابات النيابية
عام 2007. ولكن كل هذا لم يفت من عضد المقاومة، ولم ينل من عزيمتها، ولم يضعف من
قوة الشعب الفلسطيني المستعد للتضحية من أجل تحرير أرضه، وقد تحمل أعباء لا يمكن
أن يتحملها أي شعب في العالم، وعانى الكثير من أجل استقلاله وكرامته وعزته..
فشل
العدو الصهيوني في تركيع الشعب الفلسطيني في غزة، كما فشل في هزيمة حماس
واستسلامها ونزع سلاحها، فلجأ إلى وكيله في الضفة والمنسق الأمني معه (محمود عباس)
للقيام بهذه المهمة، فشن حملة شعواء على حماس واتهمها بالإرهاب، وهددها بضرورة
تسليم سلاحها لسلطته الوهمية، وقطع الرواتب عن العاملين في القطاع لتأليب الشعب في
غزة على حماس، فما كان من التجار إلا إطلاق مبادرة التكافل في القطاع، وخابت كل
محاولات عباس وباءت بالفشل، ولحقت بأخواتها الصهيونية...
***
تحل
ذكرى
النكبة هذا العام وسط تحديات عالمية خطيرة وتغيرات استراتيجية هامة على
الساحتين العالمية والإقليمية، ونذر حرب تلوح في الأفق بين الكيان الصهيوني
وإيران، وصعود محور عربي يتزعمه الأمير المغرور "محمد بن سلمان"، ولي
العهد السعودي، ومحمد بن زايد، ولي العهد الإماراتي، المتآمرين على الأمة
وتحالفهما مع الكيان الصهيوني ضد إيران وحركة المقاومة حماس باعتبارهما العدو
الرئيسي لهم.
تجيء
الذكرى السبعينية للنكبة بعد قرار الرئيس الأمريكي ترامب الاعتراف بالقدس الموحدة
عاصمة للكيان الصهيوني وعزمه نقل السفارة الأمريكية في هذا اليوم، إمعانا في
الإذلال للعرب والمسلمين. وتردد أنه سوف يعلن في هذا اليوم عن صفقة القرن التي
طبخت في البيت الأبيض وباركها حكام العرب الخونة، والتي تصفي القضية الفلسطينية
تماما وتنهي حق العودة للاجئين الفلسطينيين؛ بإنشاء وطن بديل لهم من استقطاع أجزاء
من الأردن وسيناء، لتكون الدولة الفلسطينية بلا سيادة ومنزوعة السلاح، وعاصمتها
أبو ديس، وليسقطوا القدس نهائيا من حساباتهم!
ولكن
يبقى الأمل في هذا الشعب العظيم، الشعب الفلسطيني الذي يسقط كل الحسابات ويغير كل
المعادلات بإبداعاته وابتكاراته في وسائل المقاومة والنضال. وها هو يفاجئ العالم
كله بمسيرات العودة الكبرى التي أدخلت الرعب والفزع في نفوس الصهاينة؛ وهم يرون
جموع الفلسطينيين العزل تصل للحد الحدودي الفاصل بين غزة وأرض فلسطين المحتلة؛
وينزعون الأسلاك الشائكة وهم لا يحملون أسلحة، ولكن يحملون حقهم في الأرض والعقيدة
والإرادة.. استطاعوا بطائراتهم الورقية أن يحققوا ما لم تقدر عليه طائرات الأباتشي
التي قتلت آلاف الفلسطينيين.. مات الصهاينة خوفا ورعبا وهم أحياء، بينما قتلت
الأباتشي الفلسطينيين وهم يناضلون ببسالة وشجاعة ولم يتسرب الخوف إلى قلوبهم،
فعقيدتهم ننتصر أو نستشهد.
هذه
الأجيال هي أحفاد أحفاد الفلسطينيين الذين طردوا من أرضهم وهجروا بعيدا عن فلسطين،
ولم تتكحل عيناهم برؤية فلسطين والعيش على أرضها، بين ربوعها وسهولها ووديانها
وجبالها، ولكنها في قلوبهم، يعيشون فيها وتعيش داخلهم، في وجدانهم وفي فكرهم..
أرضهم التي لن يتخلوا عنها، ولتسقط مقولة القادة الصهاينة القدام، أمثال جولدا
مائير التي قالت: "الكبار سيموتون والصغار سينسون".. مات الكبار بعد أن
سلموا مفاتيح العودة للصغار، وحملوهم الأمانة ورفعوا الشعلة من بعدهم.. الشعب
الفلسطيني شعب لا يموت ولا ينهزم.
لن
نحيي ذكرى سبعينية النكبة بالبكائيات على ضياع الأرض، بل سيُحتفل بها بمسيرات
العودة الكبرى التي ستزلزل الأرض من تحت أقدام الصهاينة بإذن الله.. مسيرات العودة
الكبرى أحيت روح النضال والمقاومة في الشعب الفلسطيني البطل، لهذا تتضافر جهود
الصهاينة العرب مع الكيان الصهيوني لإخمادها ووأدها. بئس ما يفعلون.. لن يفلحوا،
فإرادة الفلسطينيين أقوى من مكرهم وما يدبرون. خسئوا جميعا، وعاش الشعب الفلسطيني
حرا عزيزا.