تصدرت عناوين بعض الصحف المغربية الأسبوع الماضي سؤال أفول نجم العدالة والتنمية، وما إذا كان هذا الأفول ممهدا لعودة زعيمه السابق عبد الإله بنكيران من جديد إلى مربع القيادة، أم أنه يعني سقوط الحكومة واستنساخ نفس تجربة الاتحاد الاشتراكي.
مناسبة الاشتغال الإعلامي على هذا السؤال، سوء تعاطي الحكومة مع المقاطعة الشعبية التي مست ثلاثة منتجات أساسية، وأثارت معضلة زواج السلطة والمال في المغرب؛ من خلال استهداف عزيز أخنوش، الوزير الثري الذي كان يعد لرئاسة الحكومة من قبل بعض الجهات في الدولة.
تمثل سوء تدبير هذا الملف، من خلال إطلاق وزير المالية محمد بوسعيد تصريحات طائشة قدح فيها بالمقاطعين وسماهم بـ"المداويخ"، واتهمهم باستهداف الاقتصاد الوطني، ثم تصريحات ألقاها السيد عزيز أخنوش فيها كثير من التحدي للمقاطعين، استخف فيها بالحملة، واعتبرها مجرد حملة افتراضية في العالم الأزرق وليس لها أثر في الواقع، ثم تعمق سوء التدبير الحكومي لهذا الملف، من خلال دخول رئيس الحكومة في صمت طويل دام حوالي أسبوعين، قبل أن يخرج الناطق الرسمي للحكومة بتصريح أثار غضب الرأي العام، لمس فيه المقاطعون نبرة التهديد لهم بالمتابعة القضائية بنشر أخبار زائفة تمس بسلامة الاقتصاد الوطني، ناهيك عن تصريحات أخرى لوزير الشغل التي عبّر فيها عن المسافة من هذا الموضوع؛ باستعمال عبارات رأى كثير من المراقبين أنها لم تكن مناسبة.
سؤال أفول نجم الإسلاميين في مخيال الرأي العام المغربي، بدأ مبكرا، مع التدبير التراجعي لقيادة الحزب لقضية تشكيل الحكومة، وتضحيتها بشروط بنكيران للتحالف
والحقيقة، أن سؤال أفول نجم
الإسلاميين في مخيال الرأي العام المغربي، بدأ مبكرا، مع التدبير التراجعي لقيادة الحزب لقضية تشكيل الحكومة، وتضحيتها بشروط بنكيران للتحالف، والتي كانت سببا في تضحيته بمنصب رئاسة الحكومة، ومساهمتها في خروج حكومة لا تعكس الإرادة الشعبية المعبر عنها في انتخابات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
كما طرح هذا السؤال مرة أخرى غداة طرح قضية الاستمرار في إصلاح صندوق المقاصة، وظهور تصريحات من بعض وزراء العدالة والتنمية تميل إلى تبني رؤية السيد عزيز أخنوش، وترتد على فلسفة الحزب التي تبناها في عهد بنكيران لإصلاح منظومة الدعم. وظهر السؤال أيضا في اللحظة التي بدأت تظهر فيها بعض القرارات التي سجل الرأي العام أنها تلغي بعض الإصلاحات الجريئة التي قام بها رئيس الحكومة السابق، من قبيل إفشال استراتيجية الحكومة السابقة في الفصل بين موارد القطاع العام البشرية وبين موارد القطاع الخاص.
وأعيد طرح السؤال أيضا غداة التعامل الفج لقيادة الحزب مع تصريحات لرئيس الحكومة السابق في مؤتمر الشبيبة بالرباط؛ التي واجه فيها حملة أخنوش الانتخابية، وحذر من زواج المال والسلطة، لكونه خطرا على البلاد، ليزداد طرح السؤال حدة، مع انطلاق دينامية حزب التجمع الوطني للأحرار لخوض حملة انتخابية سابقة لأوانها تحت "مسار الثقة"، مضمونها السياسي التبشير بمشروع الحزب للفوز في انتخابات 2021 وتصدر المشهد السياسي وقيادة الحكومة، كما التبشير برئيس الحكومة المرتقب السيد عزيز أخنوش.
وقد ظهرت مؤشرات كافية تبرز انخفاض شعبية العدالة والتنمية، كان على رأسها سلسلة الإخفاقات التي حصدها في الانتخابات التشريعية الجزئية، إذ لم يفز (من أصل 12 دائرة) سوى في دائرتين فقط تعتبران من دوائره التقليدية (تطوان، وإنزكان).
مع هذه المواقف والسياسات التراجعية التي تبرر في مجموعها انخفاض شعبية العدالة والتنمية، ومع بروز مؤشرات تثبت هذا التراجع، إلا أن ذلك لا يكفي لإثبات أفول نجم العدالة والتنمية
لكن، مع هذه المواقف والسياسات التراجعية التي تبرر في مجموعها انخفاض شعبية العدالة والتنمية، ومع بروز مؤشرات تثبت هذا التراجع، إلا أن ذلك لا يكفي لإثبات أفول نجم العدالة والتنمية، ولا تقنع في تأكيد عدم تصدره للمشهد السياسي مرة أخرى، وذلك لاعتبارات كثيرة نذكر منها:
- أن
حملة المقاطعة الشعبية استهدفت بشكل حاد حزب التجمع الوطني للأحرار، باعتباره يمثل تجلي زواج السلطة والمال في المشهد السياسي، إلى الدرجة التي صار في حكم المؤكد احتراق ورقة عزيز أخنوش بشكل كامل، ودخول إرادات شعبية وغير شعبية في حملة الإطاحة به.
- أن الضربة التي وجهت لحزب الأصالة والمعاصرة بعد فشله في تصدر المشهد السياسي، والأزمة التنظيمية التي دخل فيها، والخلاف الذي نشأ حول صلاحية القيادة الحالية لتدبير المرحلة القادمة، وتأكيد القيادة نفسها لقرار تنحيها، فضلا عن ضعف الرهان على هذا الحزب، وعدم وجود مؤشرات لإمكانية لعبه دورا مستقبليا بعد هجرة سابقة منه لكثير من الأعيان صوب حزب التجمع الوطني للأحرار.. كل ذلك يؤكد استحالة الرهلان مرة أخرى على هذا الحزب لخلق الفارق.
- ثالثا، أن الدولة لا يمكن (في ظل الإكراهات الداخلية والخارجية) أن تسير في اتجاه ديناميات سياسية مصيرية تؤثر على الاستقرار السياسي، وتضرب ما تبقى من القاعدة الشعبية للسلم الاجتماعي. فالمغرب يمر من ظرفية دقيقة تحكمها هشاشة السلم الاجتماعي بسبب
الحراك الاحتجاجي حول
ارتفاع أسعار المحروقات، وحول مطالب حيوية للسكان في عدد من المناطق، فضلا عن حراك آخر لعدد من المناطق على خلفية التهميش والإقصاء، كما أن الاستهدافات التي توجه إلى الوحدة الترابية من قبل الجزائر والبوليساريو، ورغبتهما في تغيير الوضع على الأرض في منطقة الصحراء، تجعل أي مسعى يمكن أن يؤثر على تماسك الجبهة الداخلية ممتنعا. فوزارة الخارجية المغربية أصدرت بلاغا قويا في هذا الاتجاه، ولا يبدو أن الدولة يمكن أن تغامر بتغيير قيصري للمشهد السياسي؛ يضعف الجبهة الداخلية التي تحتاجها بشكل ملحّ في معركتها الدبلوماسية والسياسية، وربما العسكرية أيضا.
الدولة لا يمكن (في ظل الإكراهات الداخلية والخارجية) أن تسير في اتجاه ديناميات سياسية مصيرية تؤثر على الاستقرار السياسي، وتضرب ما تبقى من القاعدة الشعبية للسلم الاجتماعي
- رابعا، أن حزب العدالة والتنمية حاول الاستدراك من خلال تقديم اعتذار للشعب المغربي بخصوص التصريحات التي أدلى بها بعض الوزراء، مع تقديم وعود بوضع سياسات عمومية عاجلة لمعالجة قضية ارتفاع الأسعار، وبشكل خاص استغلال شركات المحروقات لعدم تفعيل مجلس المنافسة لتبرير التركيزات والاحتكارات التي أشعلت لهيب أسعار المحروقات، كما أن التدبير الجيد لفريقه في عرض تقرير اللجنة الاستطلاعية حول أسعار المحروقات، وفضح نواب الحزب لسلوك هذه الشركات التي ضاعفت أرباحها ثلاث مرات، كل ذلك صب في خانة ترميم جزء من سمعة وشعبية هذا الحزب.
إذا كان من الجائز القول بانخفاض شعبية العدالة والتنمية بالمقارنة بما كانت عليه زمن زعيمه السياسي عبد الإله بنكيران، فمن السابق لأوانه الحديث عن أفول نجمه
- ويرتبط الدافع الخامس، بغياب بديل تنافسي يمكن الرهان عليه لتصدر المشهد السياسي. فعلى الرغم من الانخفاض المؤكد لشعبية العدالة والتنمية بسبب السلوك السياسي لقيادة الحكومة، فالظرفية السياسية والاجتماعية الحرجة، وترهل حزب الأصالة والمعاصرة، واحتراق ورقة التجمع الوطني للأحرار، وعدم وجود مؤشرات على إمكانية أن يتصدر حزب الاستقلال المشهد السياسي، فضلا عن القاعدة الشعبية المهمة المتبقية لحزب العدالة والتنمية والإمكان الذي يتوفر عليه للاستدراك واستعادة المبادرة، وربما الاستعانة بخدمات زعيمه السابق، في حالة أفضى التقييم السياسي لتجربة أكثر من سنة في التدبير الحكومي للولاية الثانية إلى ضرورة مراجعة المقاربة، والاقتراب أكثر من خط ممانعة لوبيات المصالح، والتعبير عن الإرادة الشعبية، وهو ليس مستبعدا إذا سارت المؤشرات على نفس النسق السابق.. كل ذلك يؤشر إلى أن التضحية بالعدالة والتنمية في هذه الظرفية يعتبر مكلفا.
وعلى العموم، فإذا كان من الجائز القول بانخفاض شعبية العدالة والتنمية بالمقارنة بما كانت عليه زمن زعيمه السياسي
عبد الإله بنكيران، فمن السابق لأوانه الحديث عن أفول نجمه. وإن المحدد في السيناريو يرتبط بالجواب السياسي الجماعي الذي سيقدمه هذا الحزب، أيضا في سلوكه السياسي القادم. وهل استوعب درس أكثر من سنة من التعاطي السياسي، أم سيعيد إنتاج نفس السلوك ويبرر مزيدا من خفض شعبيته والتمهيد بذلك للتخلي عن دوره؟