هلل الإعلام الحكومي مع بداية شهر رمضان بالنجاح الباهر الذي حققه فريق المفاوضات
المصري خلال اجتماع اللجنة التساعية الخاصة بسد النهضة الإثيوبي، والتي ضمت وزراء الري والخارجية والمخابرات في الدول الثلاث: مصر والسودان وإثيوبيا.
كما نشرت الجرائد المصرية صفحتين باللغة الإنجليزية، موقّع عليها من قبل جميع أعضاء اللجنة التساعية بالحروف الأولى، كنوع من التأكيد للشعب المصري على أن كل شيء تم على ما يرام، وأنه أخيرا انتهت مفاوضات
سد النهضة بنجاح باهر، إلا أنها لم تنشر باقي صفحات الوثيقة، والتي تتكون من ست صفحات وليس اثنتين فقط. ولا يعلم أحد ما احتوته تلك الصفحات الأربعة الأخرى من بنود.
والسؤال هنا: هل فعلا انتهت أزمة سد النهضة؟ وهل فعلا تحقق نجاح على هذا المسار؟
لقد أعلن المتحدث باسم الخارجية المصرية أن الفريق المصري قد نجح أن يتفق مع الحكومة الإثيوبية والسودانية على التالي:
- إنشاء صندوق استثماري ثلاثي للاستثمار في البنية الأساسية بالدول الثلاثة.
- تشكيل لجنة فنية قومية تتكون من خمسة خبراء سدود في كل دولة للتباحث فيما بينهم، عن أفضل طرق تشغيل السد، ومد تلك المعلومات للمكاتب الاستشارية الفرنسية BRL وأرتاليا.
- عقد قمة ثلاثية لرؤساء الدول بالعواصم الثلاثة بشكل متناوب كل ستة أشهر.
- السماح لرئيس اللجنة الفنية بإرسال النقط الخلافية بين الدول الثلاث للمكاتب الاستشارية.
- إلزام المكاتب الاستشارية بأن ترد على استفسارات رئيس اللجنة الفنية خلال فترة لا تزيد عن 21 يوما.
والسؤال الثاني: هل كانت المفاوضات المصرية الإثيوبية على مدار السنوات السبع الماضية، والتي أعلن فشلها عدة مرات خلال الأشهر الماضية، وكانت تدور حول تلك البنود التي اتفق عليها أول أمس.. هل كنا نتفاوض مع إثيوبيا من أجل إنشاء صندوق استثماري مصري للاستثمار في إثيوبيا؟ أو كنا نتفاوض معها لتشكيل لجنة علمية من خمسة خبراء سدود لكل دولة؟ أو كنا نتفاوض معها للسماح لرئيس اللجنة الفنية بمراسلة المكاتب الاستشارية؟ أو كنا نتفاوض معها للمطالبة بعقد اجتماع قمة ثلاثي كل ستة أشهر؟ أو كنا نتفاوض معها للسماح للمكاتب الاستشارية بالرد على رئيس اللجنة الفنية؟
بالطبع لا، فالتفاوض المصري الإثيوبي على مدار الـسنوات السبع الماضية كان يدور حول حجم بحيرة التخزين ذات الــ74 مليار متر مكعب، وفترة التخزين، وارتفاع السد، والآثار الاقتصادية والبيئة لسد النهضة على مصر. تلك هي نقاط الاختلاف الحقيقة بين مصر وإثيوبيا، ولم يكن من بينها أبدا مطلب بإنشاء صندوق استثماري مصري لاستثمار في البنية الأساسية بإثيوبيا.
وعليه، فيجب أن نسأل أنفسنا، هل فعلا نجحت مصر في مفاوضات اللجنة التساعية؟ والإجابة هي أن مصر نجحت فعلا، ولكنه نجاح بطعم الفشل. فلقد نجحت في إغلاق ملف الطلبات المصرية المشروعة بشأن حصتها المائية المنصوص عليها باتفاقية عام 1959، كما نجحت في تغيير المسار المستقبلي للمفاوضات مع إثيوبيا من مفاوضات حول الآثار السلبية للسد على الدولة المصرية؛ إلى مسار كيفية التعامل مع السد بعد اكتماله بالشكلية التي تصر عليها إثيوبيا.
فالوثيقة لم تحمل أي تعريف "كمي" لمصطلح الاستخدام الإثيوبي "العادل" للمياه، ولا أي تعريف كمي لمصطلح "الضرر" المتوقع حدوثه على مصر. فعجز يعادل 32 مليار متر مكعب من حصة مصر سنويا في حالة إصرار إثيوبيا على ملء الخزان خلال ثلاث سنوات قد لا تراه إثيوبيا ضررا، بينما تراه مصر كارثة.
كما لم تحمل الوثيقة الجديدة أي تعهدات إثيوبية بالتوقف عن استكمال البناء بسد النهضة لحين صدور أول تقرير فني من المكاتب الاستشارية، بل أكدت على استكمال البناء على مدار الــ24 ساعة دون الحاجة لانتظار التقرير الفني الأول المنتظر صدوره يوم 15 آب/ أغسطس 2018، أي بعد بدء التخزين الفعلي ببحيرة سد النهضة.
كما أن الاتفاق على تشكيل لجنة علمية من الدول الثلاث فقط دون تدخل أي طرف أجنبي محايد لبحث الأمور الفنية بشأن سد النهضة؛ هو بند يقبع فيه الشيطان وقبيلته جميعا، حيث سيكون مصدرا للاختلاف بشكل كبير جدا فيما بينها لاحقا، وهذا بحد ذاته سيؤثر بشكل سلبي وعدائي على أي بند آخر متعلق بتيسير حال المكاتب الاستشارية.
وبالتالي فلو بدأت إثيوبيا تخزين بحيرة سد النهضة العام القادم 2019 وليس خلال فيضان آب/ أغسطس 2018، فمعنى هذا وجود أمل بشكل ضعيف جدا في تقليل حجم العجز المنتظر حدوثه على الدولة المصرية.
مع ملاحظة أن هناك صعوبة فنية لدي إثيوبيا للموافقة لمصر على التخزين على مدار السنوات السبع، أي بمعدل 15 مليار متر مكعب سنويا، وذلك لسبب بسيط جدا، وهو أن التصميم الفني لسد النهضة ومناسيب فتحات الــ"penstock" لا تسمح بذلك. فــ15 مليار متر مكعب في العام الأول تعني ملء حجم التخزين الميت بــ14 مليار متر مكعب وخسارة قرابة ملياري في الفوالق الأرضية، دون وجود أي عمود هيدروستاتيكي فوق أدنى منسوب لتوليد الطاقة (590) لتشغيل التروبينات.
ولو حدث العكس وأصرت إثيوبيا على ملء بحيرة السد خلال فيضان آب/ أغسطس 2018، فمعنى هذا أنها لن ترعى أي بنود، وخاصة البند الخامس من اتفاقية المبادئ لعام 2015، وأن كل الدراسات، سواء من قبل اللجان العلمية للدول الثلاث أو المكاتب الاستشارية، لن يكون لها أي معنى بسبب وجود واقع على الأرض غير قابل للتغيير.
وأخيرا، فلقد وافق السيسي خلال اجتماعه مع البشير وديسالين نهاية شهر كانون الثاني/ يناير الماضي على ضخ ستة مليار دولار أمريكي كنوع من الاستثمار المصري في مشاريع البنية الأساسية في إثيوبيا، مع ملاحظة أن كامل تكاليف بناء وتشغيل سد النهضة لم تصل بعد إلى ستة مليارات دولار، أي بعد ثماني سنوات من العمل الشاق بالموقع الذي لم تصل تكاليف الأعمال الإنشائية والميكانيكية والكهربائية إلى ستة مليارات دولار أمريكي). فهل مصر اليوم، والتي تقترض من صندوق النقد الدولي 12 مليار دولار أمريكي وترفع أسعار المترو والوقود على المواطن، في وضعية اقتصادية تسمح لها بالاستثمار في البنية الأساسية لدولة إثيوبيا؟ سؤال يحتاج جوابا ممن يهمه الأمر؟!