ما من بلد عربي، إلا وصاح فيه أحد أصحاب السلطان يوما ما محتجا بأن الديمقراطية الغربية لا تناسب عاداتنا وتقاليدنا، وبالفعل فإن تلك الديمقراطية تتعارض مع تقاليد القمع والسحل والسمل، ولكن وصف الديمقراطية بأنها مستوردة "عيب"، عندما يصدر الوصف عن مسؤول تستورد بلاده كل ضرورات الحياة من البلدان التي تمارس الديمقراطية النشاز.
تجد شخصا يحمل وزر وزارة سيادية، يقول إن ديمقراطية ويستمنستر دخيلة على ثقافتنا وموروثاتنا، وهو في الوقت ذاته "منستر/ وزير" نقلا عن نظام ويستمنستر، ثم لماذا تستوردون من ويستمنستر القنابل والدبابات والغاز المسيل للدموع والخبراء والمستشارين السياسيين والأمنيين والمنشطات الجنسية وحبوب منع الحمل، وترفضون استيراد أسلوب حكم يعطي الشعب بعض القول في أمور التعليم والصحة والأمن وضرورات الحياة؟
كان آخر مقال لي هنا عن بدائع الانتخابات العراقية الأخيرة، ولكن السيد غوغل نبهني إلى أن تلك الانتخابات لا تختلف عن سابقاتها منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، كان صدام يترشح ضد نفسه، بالتالي لم يكن مطالبا بالقيام بحملات انتخابية لتعداد مآثر نفسه.
فقد كان هناك نفر من "المسقفين" المصفقين- ولك أن تقرر ما إذا كانت هذه الكلمة تعني التصفيق أم الصفاقة- يتولون عنه تلك المهمة، ومنهم من صاغ له 99 اسما "حسنى": الملهم / المهيب / الحبيب / القائد / الفذ/ إلخ).
نبهني غوغل إلى عجائب انتخابات العراق عام 2014، وبما أنها تحتاج إلى مجلد كامل، فسأكتفي بحكاية تلك السيدة التي قامت بترشيح نفسها رافعة شعار "لا للإجهاض/ نعم للرضاعة الطبيعية"، ما يعطي الانطباع بأن الرضاعة الطبيعية هي نقيض الإجهاض، ولو أرادت لكلامها ذاك أن يستقيم لقالت مثلا: لا للإجهاض- نعم لإكمال الجنين ما بين 6 إلى 9 أشهر، أو "نعم للرضاعة الطبيعية، ولا لحليب نيزو ومعيزو وبقريزو".
ولأن الكلام المجاني لا يُكسب الأصوات، فقد وعدت تلك السيدة الناخبين، أنه وفي حال فوزها، ستنظم "رحلات مجانية للشعب العراقي لزيارة مقام سيدي ****"!! ولم أفهم كيف كانت تخطط لإتمام تلك الرحلات: هل بنظام الأفواج، أم بنظام التهجير الجماعي مما يترك البلد فاضية تماما لبعض الوقت؟
بعد نشر مقالي عن الانتخابات العراقية، وصلتني رسالتان بالبريد الإلكتروني من عراقيين لعنا فيها خاشي، وقال لي أحدهم إن باب النجار مخلوع، مشيرا إلى أن الانتخابات في وطني (السودان) تشهد من المضحكات ما يفوق ما حدث في العراق، فكان ردي عليه أن الانتخابات في السودان لا تشهد إلا المبكيات.
وكي أنفي عن نفسي شبهة التحامل على "الديمقراطية" العراقية، رأيت أن أترك الأمر لشاهد من أهلها، هو الشاعر الكبير معروف الرصافي:
علمٌ ودستورٌ ومجلس أمةٍ / كلٌ عن المعنى الصحيح محرفُ
أسماء ليس لنا سوى ألفاظها / أما معانيها فليست تعرفُ
ولأن قلب الرصافي كان على مواطنيه فقد نصحهم:
يا قوم لا تتكلموا / إن الكلام مُحرَّم
ودعوا التفهُّمَ جانبا / فالخيرُ أن لا تفهموا
وتثبتوا في جهلكم / فالشر أن تتعلموا
اما السياسة فاتركوا / أبدا وإلا تندموا
إن السياسةَ سرُها / لو تعلمون مُطَلْسم
وما يثبت صحة مقولة إن بعض الشعراء ضمائر الشعوب، هذه المناحة للرصافي:
من أين يرجى للــــــــــعراق تقدمٌ / وسبيل ممتلكيه غير سبيلـــهِ
لا خير في وطن ٍ يكون الســـــــيف / عند جَبَانه، والمال عند بخيلــهِ
والرأي عند طريده والعلــــــــــــم / عند غريبه والحكم عند دخيلهِ
وقد أستبد قليله بكثيـــــــــــــــــرهِ / ظلماً وذل كثيره لقلــــــــــيلهِ
هذا الرصافي مات عام 1945 فانظر كيف يكون الشعر عابرا للزمان والمكان.
هل قرأ أحدكم رأيا لمن نسميهم بالمحللين السياسيين و"المراقبين" و"الخبراء في الشؤون" عما هو حادث في العراق منذ عقود أكثر دقة من الكلمات القليلة في أبيات الشعر الأربعة أعلاه؟
واحذف اسم العراق من البيت الأول وضع مكانه كلمة "البلاد" ليصبح:
من أين يرجى للبلاد تقدم... وسترى كيف أن الرصافي وصف بؤس الحال وسوء المآل في الدول الأعضاء في الجامعة العربية، التي في طريقها لأن تصبح "جامعة عِبربية".
والخيال الشعبي لا يقل خصوبة عن الخيال الشعري، فاقرأ ما يلي وتأمل:
كان سائق سيارة يمرُّ أمام البرلمان (مجلس الأمة/ الشورى/ المجلس الوطني/ التشريعي) فوجد اضطرابا في ساحة البرلمان. فسأل عما يجري، فقيل له إن مواطنا تسلل إلى المبنى واحتجز البرلمانين، وهدد بحرقهم بالبنزين ما لم يقدموا له 17 ألف دولار، وإن التحركات الجارية لجمع التبرعات لإنقاذ الموقف. فقال السائق: بكل سرور. مني لتر من البنزين.
انسحاب أمريكا من العراق ووهم انتهاء داعش