كانت المواجهة بين
محمد علي، والي مصر (1769-1849م)، بعد انتهاء الحملة الفرنسية ونقيب الأشراف عمر مكرم (1750-1822م) من مواقف
التاريخ الماكرة، والتي ستجد لها مكانا دائما في كل وقت وكل مكان.. فهي التاريخ المستدير الذي يتداول حكاياته وأشخاصه كما يتداول أيامه ولياليه، والمدهش أن تلك الحكايات تبدأ نفس البداية وتنتهي نفس النهاية، ويكرر الجميع نفس الأدوار بنفس التفاصيل! ألا ما أعجب كل ذلك.
تقول الحكاية إن ثمة "بطلا" خرج من رحم الجهاد والكفاح ضد الحملة الفرنسية وصعد على مسرح الأحداث قويا عفيا.. هذا "البطل" اسمه "المقاومة الشعبية"، وبدا أنه استشعر معنى الحرية والانتصار وارتفاع الهامة والاستقلال، والقدرة على الفعل والتأثير، فاختار له "قياده" متمثلة في الأزهر الشريف ونقابة الأشراف، وانتظم الشعب كله تقريبا في حركه واضحة وتيار منظم، وفكرت هذه القيادة في اختيار حاكم جديد للبلاد يتناسب واللحظة التي تحياها البلاد. فليس من المقبول أن تبذل كل هذه الدماء ويصعد كل هؤلاء الشهداء؛ ثم يجلس المصريون الأبطال في منازلهم ينتظرون قدوم "الوالي" الجديد من الأستانة، رغم أنهم كانوا على استعداد لتفهم ذلك، خاصة والفترة من وقت خروج الحملة الفرنسية (1801) وحتى مجيء محمد علي (1805) كانت مليئة بصراعات السلطة، تلك التي فوق الطاولة والأخرى التي تحت الطاولة، لكنهم لم يكونوا مستعدين لقبول والٍ على شاكلة الولاة في فترة ما قبل نابليون. وجاءت الفرصة المتمثلة في رعونة وحماقة خورشيد باشا، الوالي على مصر من قبل السلطان العثماني، وعزلوه وقاموا بتعيين محمد علي عليهم (1805م)، وتوجه عمر مكرم نقيب الأشراف وعبد الله الشرقاوي كبير العلماء وعدد من العلماء إلى محمد علي، وألبسوه لباس الولاية، وأخذوا عليه عهدا ألا يفعل شيئا دون الرجوع إليهم جميعا باعتبارهم ممثلي الشعب الذي صنع كل ذلك، وهو ما قبله محمد علي، وإن على مضض، وسارت الأمور سيرا حثيثا في اتجاه لحظة الصدام التاريخية التي تحدث دائما كما تقول الكتب وكما في كل الحكايات.
وبدأت تلك اللحظة عندما أراد محمد على فرض ضرائب جديدة في البلاد، فاجتمع العلماء في بيت عمر مكرم وكتبوا إلى محمد على بضرورة إلغاء هذه الضرائب؛ لما فيها من إرهاق على كاهل الناس. وكان العلماء قد تعاهدوا بينهم على توحد الكلمة وترك المنافسة فيما بينهم، ومواجهة الوالي بصلابة تجعله يحترم الشعب وقيادته. وأرسل إليهم محمد على يطلب لقاءهم فرفضوا وأصروا على عدم لقائه إلا بعد إلغاء الضرائب.
ولم تكن العلاقة الشخصية بين العلماء كما ينبغي لها وكما يجد ربها أن تكون، خاصة في مرحله انتقالية مهمة كتلك المرحلة، وهم ضمير الأمة ووجدانها وقوتها النافذة.. يقول الناس في موروثاتهم الاجتماعية وأمثالهم الشعبية إن "النعماء والحسد لا يفترقان". وكان عمر مكرم من أهل النعم الكثيرة، فغير أنه كان من الأشراف والعلماء، فقد كان من الأثرياء وله حضور قوي وكاريزما ساحرة وكلمة مسموعة لدى الشعب، وكان ذلك كله مصدر قوته، وهو ما توقع معه محمد علي أن من له هذه الصفات لا بد وأن يكون له من الحساد والمبغضين عدد غير قليل، فبحث عنهم ووجدهم! وكانوا للأسف الشديد من كبار العلماء، مثل الشيخ المهدي والشيخ الدواخلي، وكانا بالفعل يكرهان عمر مكرم فأرسل إليهما محمد علي أحد رجاله الخلّص، واستطاع بسهوله أن يستميلهما إليه، فذهبا دون عمر مكرم لمقابله محمد علي الذي بالغ في التلطف بهما وحسن معاملتهما، وضمهما إليه وقال لهما: "أنا لا أرد شفاعتكما ولا أقطع رجاءكما، والواجب عليكما إذا رأيتما مني انحرافا أن تنصحاني وترشداني، أما عمر مكرم فهو في كل وقت يعاندني ويبطل أحكامي ويخوفني بالجمهور". فقال له الشيخ المهدي: "هو ليس إلا بنا، وإذا خلا عنا فلا يساوي شيئا..". وقد كان، ودبت "الحالقة" التي حذرنا منها الرسول الكريم بين العلماء، وتركهم محمد علي يغالبون بعضهم البعض وتحيّن الحين وتخيّر الوقت (وكان عبقريا في انتهاز اللحظة السانحة)، فعزل عمر مكرم ومنح الشيخ المهدي مخصصاته ووظائفه، ونفاه إلى دمياط. وخوفا من جماهيريته وشعبيته بين الناس، قام العلماء (وليس محمد علي!!) بجمع توقيعات العلماء والمشايخ يطلبون فيها نفي عمر مكرم إلى تركيا.
وبهذه الخطوة شديدة الخطورة في كل تاريخ مصر الحديث، استطاع محمد على القضاء على المشاركة الشعبية قضاء تاما، وأسست لحظة الصدام هذه للحكم السلطاني المتعالي على أي محاسبه أو مساءلة، بل تكاد تكون تجربه محمد علي في الاستفراد بالسلطة تجربه مكرروة، تعتمد كل الاعتماد على المؤامرة والتنظيمات الخفية، أيضا وبدرجة كبيرة؛ على "الغل" و"الحسد" بين النخبة والقادة وزعماء الناس. وهذا عادة ما يأخذ عناوين فكرية وسياسية، وما هو في حقيقته إلا "هوى النفوس وحقدها الملحاح"، كما أخبرنا أمير الشعراء شوقي في قصيدة الشهيرة "في رثاء الخلافة الإسلامية"، فيفرق المستبد كلمتهم ويكسر شوكتهم ويفت في ساعدهم.
كان محمد علي صورة لواقع يسير على إيقاع زمنه، فلم يطق وجود زعماء شعبيين من حوله يراقبون أعماله ويحدون من استئثاره بالسلطة والحكم.
ولأن التاريخ يعيد نفسه مرات ومرات، خاصة في مأساة "شق الصفوف الواحدة وتفريق الجموع الغالبة"، فبعد أن تمكن من عمر مكرم، استفرد بالعلماء واحدا تلو الآخر، فنكّل بالشيخ المهدي نفسه، والشيخ الشرقاوي والشيخ السادات الذي تولى نقابة الأشراف بعد عمر مكرم، والشيخ الدواخلي الذي جاء بعده، وأعمل في الجميع يده الباطشة، فصادر أموالهم وممتلكاتهم وتعمد إهانتهم علانية حتى يقلل من هيبتهم لدى الجمهور، فلا تكون لهم كلمه مسموعة بعد ذلك، فأثبت بذلك أنه كان واعياً لدرس ماكيفيللي القائل بأن "على الحاكم تحطيم أولئك الذين رفعوه إلى الحكم". ومن تلك الحقبة تقريبا دخل المجتمع المصري صراعا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا لا زال قائما حتى اليوم.
الفيلسوف بيدبا، مؤلف "كليلة ودمنة"، يقول إن هناك شخصيات لا يجب أن تلوم إلا نفسها حين تنهال على رؤوسها الكوارث.. من تلك الشخصيات "شارب السم للتجربة"، فلا أحد أيها الأصدقاء يشرب السم للتجربة، إذ يكفى أن يجربه غيرك أمامك وتكتشف من خلال تجربته نتيجة هذه التجربة الغراء.