ذهول مطلق ودوار أمام قدرة الشعوب على الحركة وسرعة خمودها أو إخمادها ببعض الأكاذيب.. ذهول من تجدد روح الشارع في الأردن ومواتها في
مصر وتونس.. ذهول من آلام دائمة وخيبات تتجدد وخطة للمستقبل لا يكتبها أحد. سقط خبر تغيير رئيس وزراء الأردن، بعد أكثر من أسبوع من الحراك الجماهيري الذي استفزته زيادات موجعة في المعيش. سيصمت الشارع الذي في لحظة من هياجه تجاوز مطلب العيش ليحرر فلسطين، تماما كما فعل شارع
تونس قبله، فرفع الشارع يريد تحرير فلسطين، مضحيا بمطلبه القطري الصغير من أجل مطلب الأمة، ثم خنس حتى صارت نخبته تراود الصهاينة على أنفسهم.
ذهول من انقطاع خيط الأفكار الرابط من قمة الثورة وحضيض الردة في شعب واحد، في زمن لا يقاس في تاريخ شعب.. ذهول من الحدين المتطرفين بلا خطة.. الأردن والدوار الرابع أيقظا المواجع، وجرا أسئلة لم نجب عليها سابقا.
ربيع عربي يتجدد؟
في باب الأمل نقول إن الدوار الرابع في الأردن فصل آخر من ربيع عربي ظن كلما غم عليه في بقعة نبع في أخرى، كأنه الماء يضغط عليه، فيكسر الإناء ويمور بالحياة. صورة رومانسية نحبها ونروج لها دون ما تقتضيه موضوعية التحليل. فنحن من بعضه في مكان آخر رزقنا به حياة من موات. كل ما شاهدناه في عمان يطابق ما شهدته تونس وما شهدته القاهرة وما شهدته صنعاء ذات ربيع موغل في الأمل.
ربيع عربي يبدأ من مشكل محلي كأنه محلي فعلا، لكنه سرعان ما يجد نفسه في فلسطين، ويثبت للمرة المليون أن قضية التحرر القطري مرتبطة ارتباطا ثابتا بتحرر الوطن الكبير من الطاعون الذي يسكن خاصرته. حراك يقول للحظة العابرة وللتاريخ إنه لا حرية لقطر دون حرية الوطن الكبير، وأن الوطن القطر يمر إلى حريته عبر فلسطين. اختلاط موجع ولذيذ ومنهجي رغم فوضى ظاهرة في ترتيب المطالب. هذا ديدن أمة تواقة إلى الحرية منذ قرن. لم تكبلها الاتفاقيات في كامب ديفيد ولا في وادي عربة. ولن تكبلها صفقة القرن التي تتسرب في الدوار الرابع لتربك الشارع وتخلط عليه الأوراق في محاولة إنقاذ النظام المطبع، عبر تشويه الحراك بنظرية مؤامرة تغير لسانها بحسب مصلحة العدو.
كان هناك سؤال أجاب عنه الشارع التونسي والمصري في حينه: لا حرية لمواطن عربي وفلسطين تحت الاحتلال. تاه الشارع في تونس ومصر وصنعاء عن القضية بفعل ضعف داخلي تسرب منه أعداء الحرية، فأفسدوا على الناس ثورتهم، وكان المفسدون من الداخل أكثر، حيث كان العدو يجد له سندا من مطلبية عجولة تريد قطف الثمرة قبل نضجها.
إسقاط الحكومة في ربيع الدوار الرابع سيفتح باب المطلبية ويختل الترتيب المنهجي مرة أخرى، فلا تكون قضية حرية لأمة بل شبع لبعض النهمين إلى الثمار الجاهزة ثم انتكاسة، كأن لم يتعلم الشارع الأردني من الشوارع العربية التي خذلت من داخلها قبل أن يتسرب إليها العدو، ويصير النقاش إلى حرية اللواط بدل حرية الأمة، بقدر الأمل من الدوار الرابع بأن يكون استفاقة في مكان آخر بقدر التوقع المؤلم بقرب انتكاسة.
ربيع عربي ينتكس
يكفي أن يستخرج النظام في قمة المشكل رجلا غيورا وذي سمعة فيقدمه، فيخجل الثوار ويعودون.. ثقافة التقدير الأخلاقي لمن يستحق التوقير.. المثقف الغيور على أهله يقبل المهمة خوفا على أهله.. يفرح النظام يرتبك الشارع تبدأ الانتكاسة. شيء مشابه حدث في تونس ومصر. النظام يفتت الشارع بنصف رفض ونصف استجابة، ثم يبدأ قضم المطالب المشروعة، وأولها فصل حرية القطر عن حرية الأمة، فتلك قضية كبرى لا وقت لها ولا جهد، كما قال وزير تونسي جيء به من عدم، فقال دعونا من القضايا الكبرى فوجدنا أنفسنا، بعدها نناقش قدرة النظام على توفير البيض في رمضان، ونستفيق على أفواج الشباب غرقى في المتوسط الذي صار في الحديث الباكي القبر الأبيض المتوسط.
الفطرة الشعبية السليمة تصطدم بقدرة النظام على التلون والانحناء، ثم الانقضاض على الشارع باسم السلم الأهلي الضروري لبناء ديمقراطية متأنية تأتي في أوانها الذي لا يأتي أبدا.
أولاد الحراثين في الأردن هم أولاد الحفيانة في تونس.. هم فقراء بولاق والصعيد الجواني في مصر المحروسة التي انتهت في ثكنة كبيرة مغلقة على مئة مليون تائه في صحراء الانقلاب الدامي، وقد كانت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق اكتفائها الغذائي في سنة من حكم الديمقراطية؛ على هشاشة البداية المرتبكة.
قال المواطن الأردني في الدوار الرابع لا تخوفونا بحالة سوريا، خوفونا بحالة ماليزيا، فماليزيا ليست أسطورة. إنها هناك ونشاهدها على اليوتوب دون حاجة إلى أكاذيب التلفزة العمومية في الأقطار التي تعرف كيف تخنق شعوبا بالخوف والترويع.
في العيد سيكون المواطن الأردني سعيدا برئيس حكومة نظيف اليد، لكنه مكتوف بنظام سياسي يغير قشرته سريعا ولا يغير جوهره، ثم يدخل صيف الكسل ويصير الدوار الرابع أسفا كسيفا. لماذا تقف الشعوب العربية في منتصف الطريق إلى حريتها الكاملة؟
نصف ثورة هزيمة كاملة
هذا الدرس المصري والتونسي واليمني مثال أمام الحراك الأردني الأخير في ربيع عربي يبدأ وينتكس. أين الخلل؟ في فطرة الشارع التي تعرف أن تخرج على النظام وتصرخ في وجهه بفساده وقلة حيلته؟ أم في السياسي والنقابي الذي يريد اقتسام المسافات مع النظام فيكبل الحراك؟ أم في المثقف الذي يقبل إنقاذ النظام من أزمته؟ تتكرر الحالة كأنها تسجيل صوتي في مسجل قديم. المثقف المدخول في نيته ومطلبه يعجز عن تحمل مسؤوليته التي طالما صدع بها الرؤوس. (المثقف قائد الجماهير) تخرج الجماهير فتجد المثقف وراءها يتصيد سبل قرصنة حراكها لمغنمه الشخصي الفئوي، فيصير أولاد الحراثين أو أولاد الحفيانة وقودا لمعاركه التي يتربص بها المثقف أكثر مما تفعل السلطة. يعرف المثقف أزمة السلطة أمام الشارع، فيمد لها حبل النجاة فتنجو وينتكس الشارع. وما حراك الأردن إلا نسخة أخرى تنتكس.
ذهول مطلق. بعد سبعين عاما من المثقف العربي الطليعي الذي بنى أمة عظيمة في كتبه ثم باعها بأسرع مما اقتضت قوانين السوق السياسي. رزّار الأردن وقنديل مصر وقنديل سوريا وشابي تونس.. منقذو الأنظمة الفاسدة من الانهيار. الأخير لا يعتبر بالأولين.
ذهول مطلق، وصبر نفد، وأوطان مرهونة، وعيد حزين على مئة قبر أو يزيد؛ غرق أهلها في القبر الأبيض المتوسط بعد أن فقدوا الأمل في حل في وطنهم، تونس، يقيهم ذلة التهميش والسؤال في بلد إطلاق ربيع عربي قصير النفس، أو بالأحرى ربيع تطلقه الشعوب فتخنقه النخب.
ذهول يدفع التحليل في زاوية ويطلق عواطف الخيبة، فتخيم على النصوص وعلى الأرواح، فلا نجد سبيلا إلى جملة تضرم الأرواح بالحرية الباهرة. ذهول من روح أمة تعرف الطريق على الورق، وترتبك دون ثمنها القاني.