لاحظنا بمعظم تجارب "الربيع العربي" (في مصر وتونس وليبيا، وإلى حد ما في المغرب)، أن إعادة صياغة الوثيقة الدستورية عرفت استقطابات حادة، شارفت في بعضها على المواجهة المتشنجة، فيما يتعلق بوظيفة وحدود السلطة القضائية، والدور الذي من المفروض أن تقوم به، إذا لم يكن لبناء دولة الحق والقانون، فعلى الأقل لتدبير مرحلة الانتقالات المضطربة.
ترتب عن الاستقطاب إياه بروز موقفين أساسيين اثنين، الواحد على شفا نقيض مع الآخر تقريبا:
- موقف أول ينادي بالاستقلالية التامة للمؤسسة القضائية، بنية وبنيانا، عن باقي المؤسسات، مع السمو بها إلى مرتبة سلطة قائمة الذات، محايدة، مترفعة عن المزايدات، وبعيدة عن التشنجات التي لا تسلم منها مؤسستا الحكومة والبرلمان، باعتبارهما المؤتمنتين على السلطتين التنفيذية والتشريعية.
الاستقلالية التامة للمؤسسة القضائية، وإن كان طموحا مشروعا في المدى البعيد، فإن من شأن الدفع به اليوم إلى أقصى مدى، إفراز "دولة داخل الدولة"
يذهب هذا الموقف حد المطالبة بأن يكون الجهاز القضائي سيد نفسه، في تطبيق القوانين واللوائح والتشريعات نصا وتأويلا، كما في تدبير مجاله، تعيينا وترقية وتأديبا.
- وموقف ثان، يرى أن الاستقلالية التامة للمؤسسة القضائية، وإن كان طموحا مشروعا في المدى البعيد، فإن من شأن الدفع به اليوم إلى أقصى مدى، إفراز "دولة داخل الدولة" (دولة
القضاء يقول البعض)، قد ينتفخ جهازها ويتغول، فيتعذر بالتالي لجمه أو ضبط سلوكه بوجه السلطتين التنفيذية والتشريعية، كما بوجه الأفراد والجماعات على حد سواء.
ويتابع أصحاب هذا الرأي القول بأنه لو تم فصل السلطات الثلاث فصلا كاملا وقاطعا، فسنكون بالمحصلة النهائية بإزاء سلط منتظمة على شكل جزر معزولة، مستقلة ومحصنة بعضها بوجه بعض، مما قد ينذر بالتصادم والاحتراب، ولربما القطيعة المفضية حتما على الفوضى، إذا تسنى لكل واحدة منها أن تزايد على الأخرى، تتضايق من سلوكها، ترفض التعامل معها، تنازعها الاختصاصات، ولا تقبل بالانصياع لقراراتها، وهكذا.
محدودية ذات الموقف تبدو صارخة للعيان، كونه لا يأخذ بعين الاعتبار المحيط العام الذي تشتغل في إطاره ذات القاعدة، تفعل فيه وتتفاعل معه في الزمن والمكان
وإذا كان موقف الفريق الأول يبدو بديهيا، برأي العديد من فقهاء القانون الدستوري، على اعتبار أن القاعدة القانونية واحترام حقوق الأفراد والجماعات لا يمكن أن يضمنا إلا في ظروف تحرر القضاء من أي تدخل، فإن محدودية ذات الموقف تبدو صارخة للعيان، كونه لا يأخذ بعين الاعتبار المحيط العام الذي تشتغل في إطاره ذات القاعدة، تفعل فيه وتتفاعل معه في الزمن والمكان.
ولهذا السبب، يبدو طرح الموقف الثاني طرحا احترازيا (ولربما استباقيا أيضا)، كونه يقف عند ثلاثة عناصر تتراءى له، غير مستحضرة من لدن الدافعين بالموقف الأول:
- العنصر الأول، يتمثل في رأيهم في احتمالات تغاضي "دولة القضاة" (إن تسنى لها أن تؤسس وتبنى) عن بعض معطيات واقع الحال، لإعمال قاعدة قانونية ما قد يكون من شأن إعمالها الإضرار، ولو مؤقتا، بالمصلحة العامة، أو الدفع بالبلاد إلى أتون "مطاردة للساحرات"؛ قد تبدأ وقد لا يعرف المرء لها لا من مدى ولا من منتهى. ويستدل أصحاب هذا الطرح بـ"نازلة الربيع العربي"، وكيف قد تفضي متابعة رجال النظام السابق في هذا البلد أو ذاك إلى نسف بوادر المصالحة المأمولة، وإلى إشاعة جو من الريبة والخوف، وتقويض آمال الانتقال الديمقراطي المنشود بالمحصلة النهائية.
ضرورة أن يكون القضاء مستقلا وبعيدا عن المزايدات الآنية العابرة، لكن شريطة أن يكون (أعني القضاء) ضابطا لإيقاع ما يتموج، وألا يتحول إلى أداة مباشرة لتصفية الحساب
يقر أصحاب الرأي إياه بضرورة أن يكون القضاء مستقلا وبعيدا عن المزايدات الآنية العابرة، لكن شريطة أن يكون (أعني القضاء) ضابطا لإيقاع ما يتموج، وألا يتحول إلى أداة مباشرة لتصفية الحساب مع هذه الجهة أو تلك، أعني توظيف القانون ولي عنق نصوصه ليتماهى مع حسابات هذا الطرف أو ذاك.
- العنصر الثاني، يكمن في نظرهم في ضرورة فك الالتباس القائم في العلاقة بين مؤسسة معينة تنشد الاستقلالية ("مؤسسة" القضاء)، وبين مؤسستين (التشريعية والتنفيذية) تعبران عن عهدة شعبية؛ تستوجب منهما، ليس فقط صياغة السياسة القضائية العامة، بل أيضا إقامة أسس نظام قضائي عادل ومنصف.
كيف - يقول هؤلاء - لجهاز معين، تتأتى مصادر عمله من المال العام، ويقوم على تطبيق القوانين الصادرة عن الحكومة و/أو عن المؤسسة التشريعية، أن "يتطاول" على جهازين يستمدان شرعيتهما من صناديق الاقتراع، ولا استعداد لديهما لتقديم الحساب (فما بالك التعرض للمساءلة القضائية) إلا أمام من فوض لهما مشروعية الحديث باسمه؟ كيف - يتابع هؤلاء - يمكن أن يستفرد القضاء بسلطة كاملة، وهو الذي لا صلاحية من بين يديه ولا من خلفه، إلا صلاحيات تنفيذ التشريعات التي تصدر عن الجهازين صاحبي المشروعية الانتخابية؟ لا بل - يؤكد هؤلاء - كيف لجهاز غير منتخب أن يبث في قضايا هي من صلب المؤسسات المنتخبة؟
الخشية إن تسنى للسلطة القضائية أن تحرز الاستقلالية الكاملة ("تحرير" النيابة العامة تحديدا)، من أن تتحول إلى لوبي حقيقي، قد لا يتوانى فقط عن إعمال المتابعة ضد هذا أو ذاك
- أما العنصر الثالث فيتمثل - في نظر أصحاب الموقف الأول - في الخشية، إن تسنى للسلطة القضائية أن تحرز الاستقلالية الكاملة ("تحرير" النيابة العامة تحديدا)، من أن تتحول إلى لوبي حقيقي، قد لا يتوانى فقط عن إعمال المتابعة ضد هذا أو ذاك، من خلال تأويل مطاط للقاعدة القانونية أو لي عنقها لتخدم هذه الأجندة أو تلك، بل قد يذهب حد التواطؤ مع هذه الجهة أو تلك لتصفية حسابات ما، أو خدمة ترتيبات قد لا تكون دائما سليمة في العرف القضائي المعتاد. إذا لم يكن الأمر كذلك، يقول هؤلاء، فكيف تفسير (ناهيك عن تبرير) حفظ ملف هذا السياسي أو تحريك المتابعة ضد ذاك؟
ليس هذا فحسب، بل إن الدافعين بهذا الطرح لا يخفون تخوفهم من عودة ممارسات الدولة العميقة، لا سيما وقد ثبت من سلوكها أنها غالبا ما تتدثر بثوب الخصم تارة والحكم تارة أخرى، وفق الظروف والسياقات، بغرض ترجيح هذه الكفة أو تغليب تلك.
ولذلك، فإن أصحاب هذا الطرح لا يبدون اطمئنانا يذكر لفرضية استقلالية القضاء، بل يذهبون إلى حد اعتبارها إخلالا بالتوازنات الهشة التي تطبع العلاقة بين السلطات، وتمنحها الحد الأدنى من المراقبة والمحاسبة.
خروج بعض القضاة للتمرد على السلطتين التشريعية والتنفيذية، واعتبار ما تنويان الإقدام عليه من إصلاح لمنظومة السلطة القضائية مجرد كلام عابر
وشاهدهم على ذلك إنما خروج بعض القضاة للتمرد على السلطتين التشريعية والتنفيذية، واعتبار ما تنويان الإقدام عليه من إصلاح لمنظومة السلطة القضائية مجرد كلام عابر.
تقول قاضية مغربية بإحدى محاكم غرب البلاد، بخصوص مشروع القانون المنظم للسلطة القضائية بالمغرب: "... لا تنسوا زملائي أننا الأقوى وأصحاب الكلمة الفصل في كل ما سيحصل. فالمحاكم ملعبنا، والقانون عملنا، وخباياه لا تخفى علينا، وتفسيره جزء كبير من مواهبنا، وأسراره الهواية التي نتسلى بها. فلا خوف علينا لأن مكة أدرى بشعابها؛ لأننا في كل مرحلة سنجد دائما أسلوبا مبتكرا يرد كيدهم في نحورهم، ويجعلهم يندمون على اليوم الذي خطت أيديهم هذا القانون أو ذاك، فلن نعدم الوسيلة".