للصبر حدود. ولحلمها وصبرها على تعدياتها وخروقاتها وتدخلاتها المشينة في شؤونها الداخلية أيضا خطوط وحدود لا بد أن تضبط يوما بدقة وصرامة وعلى المكشوف، مهما بدا ذلك الآن صعبا أو شبه مستحيل. ليس معنى ذلك أن على تونس المسالمة والصغيرة أن تزلزل بالضرورة الأرض تحت أقدام الامبراطورية الإماراتية، وتغير سلوكها ومواقفها مئة وثمانين درجة، معلنة حربا ضروسا شعواء على البلد الخليجي، الذي يعادي ثورتها بالطول والعرض، ويكيد لها بالليل والنهار.
وليس معناه أيضا أنه سيكون من الضروري والمفيد لها أن تثأر لهيبتها وكرامتها، بالقطع الفوري للعلاقات الدبلوماسية معها وطرد سفيرها من عاصمتها شر طردة. لكن «ألم يعد الزقاق مسدودا تماما بوجه الهارب» مثلما يقول المثل التونسي المعروف؟ وألم يعد من غير الطبيعي أو المعقول أن تطبق قواعد اللعبة نفسها على كل التوترات والأزمات المعلنة والصامتة التي تشهدها علاقة البلدين، من دون أي مراجعات أو تعديلات أو حتى تقييمات لمدى نجاعتها وجدواها؟ ألم يعد من المناسب لتونس اليوم أن تبحث عن طريق آخر وأسلوب جديد في تعاطيها وتعاملها مع مناورات أبوظبي، بدلا من أن تدفن رأسها في التراب مثلما تفعل كل مرة، مكتفية بالصمت المطبق عن تجاوزاتها وإدارة خدها الأيسر لها كلما تلقت منها ضربة على الخد الأيمن؟
فما الذي تخشى فقدانه من الإمارات أكثر مما فقدته منها حتى الآن بالفعل؟ ربما سيكون من العبث أن نتصور أن حالة الشد والجذب، ومظاهر الفتور والبرود وحتى التوتر وعدم الارتياح التي تلاحظ في تعامل كل طرف مع الآخر، ستكون قدرا مكتوبا إلى غير رجعة. فلا بد عاجلا أم آجلا أن يفقد أحدهما أو كلاهما لسبب من الأسباب تحفظه وبروده، ويتخلص من لعبة التجاهل وإدارة الظهر المستمرة للمشكل المزمن بينهما، ويستخلص ولو متأخرا العبرة والدرس المناسب من كل المواقف والأحداث التي حصلت على مدى السنوات السبع الأخيرة، ويحسم بوضوح إما لصالح إعادة صياغة علاقة جديدة تكون مبنية بالفعل على قواعد التكافؤ والاحترام المتبادل، وعدم تدخل أي منهما في الشأن المحلي للآخر، أو يقرر استحالة ذلك وضرورة الفراق والطلاق البائن والقطيعة الرسمية والنهائية بين النظامين.
ومن المؤكد حتى الآن، أن الامارتيين ليسوا بحاجة لأن يكونوا المبادرين بالخطوة الأولى في تصحيح العلاقة آو قطعها. فهم يعتقدون أن الطرف المقابل في موقف ضعف، وأنه لن يستطيع أن يخرق قاعدة «لا عين رأت ولا أذن سمعت» التي يلجأ لها، كلما وجد نفسه وجها لوجه أمام الاستفزازات والمحاولات الإماراتية المشبوهة للتدخل في شؤونه الداخلية. وعليه فهم لا يرون داعيا أو مبررا لتحريك الأمور أو «خلع أبواب مفتوحة» على رأي المثل الفرنسي، ماداموا واثقين أن كفة ميزان القوى الحالية ترجح لصالحهم، رغم كل ما يلحق بصورتهم لدى الرأي العام المحلي والعربي من ضرر فادح. إنهم يلاحظون جيدا كيف أن التونسيين يحسبون مواقفهم بحذر شديد، ولا يردون على الاستفزاز باستفزاز مضاد، وكيف أنهم يحرصون دائما وأبدا على إبقاء جسور الصلح والحوار مفتوحة، حتى مع أشد الأعداء والخصوم. والمشكل هو أنهم لا يستطيعون أن يفهموا كيف يمكن لبلد صغير ينوء بالمشاكل والأزمات الثقيلة أن يرفض مرة بعد أخرى كل العروض السخية لحكام أبوظبي، بالتخلص من الديمقراطية والحرية ومشتقاتهما مقابل الحصول على ملايين الدولارات، التي هو بأمس الحاجة لها. ومع ذلك فهم لا يملون من تكرار المحاولة تلو الأخرى، لإقناعهم بما يملكون من حجج مالية واستخباراتية قوية بتغيير مواقفهم والانصياع لرغباتهم.
وما يثير حفيظتهم أن كل جهودهم ومحاولاتهم سرعان ما تتبخر وتذهب أدراج الرياح. وفي اللحظة التي يظنون فيها أن الأمور استقرت واستوت، وأنهم باتوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هدفهم، تُسقط تونس من حيث لا يدرون ولا يحسبون كل خططهم في الماء. إنها تفعل ذلك من دون أي جلبة أو فرقعة إعلامية، بل بهدوء تام وحتى تكتم شديد متجنبة أي إشارة مبطنة أو صريحة قد يفهم من ورائها ضلوع الإمارات في التخطيط والتمويل المطلوب لمسلسل الهزات والاضطرابات الذي تعرفه، والذي لا يكاد يتوقف. لكن ألم يعد الأمر مربكا ومملا وأشبه بالمسرحية الرديئة؟ ألم تفقد حالة اللاحرب واللاسلم بطول المدة أي مبرر لبقائها واستمرارها؟ ربما كان المثال الأخير الذي قد يدل على ذلك هو قصة الانقلاب الإماراتي التي نشرها موقع «موند إفريك» الإخباري الفرنسي قبل أيام، وكشف فيها أن سبب إقالة وزير الداخلية التونسي في السادس من الشهر الجاري، هو مشاركته في محاولة انقلابية جرى التخطيط لها مع أطراف خارجية وعلى رأسها الإمارات.
لقد كان الجديد في القصة هو الكشف عن أسماء بعض الوجوه السياسية المحلية التي كانت بيادق بأيدي المخططين الإماراتيين والسعوديين للانقلاب. ولكن أهم ما قدمه تقرير الموقع الفرنسي هو أنه أماط اللثام عن الجهة التي أنقذت تونس من السقوط في المستنقع المصري، وهي المخابرات الفرنسية والجزائرية والألمانية التي سارعت لتنبيه السلطات للعملية، ما يعني بوضوح رفض الدول الثلاث لأي محاولة إماراتية للتدخل في تونس وتغيير الأوضاع فيها بالقوة، ويشير بالمقابل أيضا إلى أن الإماراتيين باتوا في موقف لا يحسدون عليه، بعد أن رفع الفرنسيون والجزائريون المنزعجون من تدخلاتهم في الجارة ليبيا الورقة الحمراء في وجه أي دور إماراتي في تونس.
لكن وبغض النظر عما إذا كانت تفاصيل قصة الانقلاب دقيقة أم لا، هل سيكون بإمكان التونسيين أن يستغلوا مثل ذلك الانقسام في مواقف القوى الإقليمية، وهو أمر ثابت لصالحهم، ويفهموا أبناء زايد أن الأمور لن تظل على حالها، وأن زمن الصمت وضبط النفس وتجاهل تدخلاتهم قد ولى وانقضى إلى غير رجعة؟
حتى الآن لم يخرج لا الرئيس التونسي ولا رئيس الحكومة أو البرلمان، ليكشف إن كانت هناك أصلا محاولة انقلاب أم لا. وحتى لو حصل ذلك فسيكون مستبعدا أن يشير أي مسؤول تونسي صراحة بإصبع الاتهام لأبوظبي في الوقوف وراء عمل مماثل. فحسابات الربح والخسارة من وراء أي خطوة لكشف الأوراق لاتزال تطغى على أي اعتبار آخر. والمشكل بنظر السلطات ليس في الإمارات وحدها، بل فيمن يمكن أن تحشدهم وراءها من قوى محلية وإقليمية أخرى قد تشكل تهديدا جديا لها، لكن ذلك لا يعني أنها ستتمسك طويلا بسياسة غض الطرف عن مناورات أبوظبي وتهديداتها المباشرة لأمنها واستقرار تجربتها. فصبرها أوشك فعلا على النفاد، ولم يعد ممكنا للعبث الإماراتي أن يتواصل بالشكل الذي كان عليه في السابق. وربما ستحدد عوامل داخلية وخارجية مثل نتائج الانتخابات التركية القريبة ودعم الجزائر وفرنسا ومن ورائها أوروبا، الوقت المناسب الذي ستطلق فيه تونس صافرة النهاية للعبة العربدة الإماراتية التي لم تقابل بما تستحق.
القدس العربي