فيما جرت العادة أن تباشر السلطات الإسرائيلية بالحرب النفسية ضد الشعب الفلسطيني ضمن حملة متناسقة من الألف إلى الياء، ويلوذ الفلسطينيون برد الفعل ليس أكثر، لكن حرب غزة الأخيرة 2014، ونحن نحيي ذكراها الرابعة في هذه الأيام، قلبت ظهر المجنّ أمام القدرات الإسرائيلية المعهودة في مجال الحرب النفسية، فقد فاجأتها المقاومة قبل اندلاع المعركة برسائل إعلامية مركزة ومتواترة، استهدفت إرباك المستويين: السياسي والعسكري الإسرائيليين، وضرب الجبهة الداخلية.
ومع بدء المعركة، استمرت المقاومة بتصدير رسائلها الإعلامية المؤثرة، التي تنوعت في أشكالها ومضمونها وأهدافها بصورة شبه يومية، ما حدا بالعديد من المعلقين والخبراء الإستراتيجيين للتأكيد بأن تل أبيب خسرت الحرب النفسية مبكرا لصالح المقاومة.
الحرب النفسية
لم تأت قوة رسائل الحرب النفسية للمقاومة من فراغ، بل تم إعدادها، وصوغ مضامينها من قبل مختصين وخبراء في الحرب النفسية، ما يؤشر لمستوى التطور الهام الذي بلغته على مختلف الأصعدة والمجالات، وترك أوضح الأثر على طبيعة إدارة الطرف الإسرائيلي للمعركة، التي شابها الكثير من التخبط والإرباك، ومستوى الضعف الذي اعتور المجتمع الإسرائيلي وجبهته الداخلية.
وجاء في رسالة مصورة بثتها كتائب القسام على موقعها الإلكتروني لمدة دقيقة موجهة للمستوطنين، وتظهر صورة "نتنياهو ويعلون وغانتس"، وكتب تحتها باللغتين العبرية والعربية: "قادتكم قتلوا أطفالنا، قصفوا بيوتنا، وحكموا عليكم بالموت.. اهربوا قبل فوات الأوان"، ويظهر في خلفية الصورة مئات الصواريخ تطلقها المقاومة دفعة واحدة، ونيران تشتعل لهروب عدد من المستوطنين وقادتهم.
وبثت الكتائب فاصلا قصيرا يظهر قدرتها على استهداف الطيران الإسرائيلي خلال المواجهة القائمة، ويظهر الفاصل الذي كتب باللغتين العربية والعبرية طائرات تحلق في سماء غزة، وقادمة للإغارة على أهداف في القطاع، ثم يستهدفها القسام، في إشارة إلى قدرته على إسقاطها.
وفور اندلاع المواجهة، نشرت المقاومة رسائل إعلامية، أهمها شريط فيديو تصويري لصاروخ من تصنيعها، ومجموعة صور استعراضية لمسلح يحمل صواريخ، ومن خلفه نيران تشتعل، وكتب أسفلها باللغتين العربية والعبرية: "كل المدن الإسرائيلية قريبة من غزة"، في إشارة إلى أنها في مرمى صواريخ المقاومة.
وجاء في مقطع مصور يُظهر استمرارها بتصنيع صواريخ محلية الصنع من طراز m75، داخل ورش التصنيع الخاصة بها في مكان غير معروف، في إشارة إلى تصنيع الصواريخ خلال فترة الحرب على غزة، وخاطبت الإسرائيليين: "زعمت قيادتكم الفاشلة أنهم دمروا قدراتنا الصاروخية، لكن ما زال التصنيع مستمرا".
لكن الأيام الخمسين من حرب غزة أظهرت أن هناك فرقا بين "حرب نفسية وشنّ حرب بطريقة نفسية"؛ لأن حماس انخرطت في النوع الأول، وأرسلت رسائل نصية بأنّ المفاعل النووي الإسرائيلي في "ديمونا" تعرض لهجوم، لكنّ النوع الثاني في صميم حملتها، حيث الصواريخ التي لا يمكنها الانتصار على الإسرائيليين، لكن يمكنها نشر الخوف بينهم.
كل ذلك منح المقاومة فرصة أن تنجح بكسر هيبة الجيش، والتسبب بصدمة نفسية عميقة للإسرائيليين، والتلاعب بأعصاب قيادتهم، وتسجيل نقطة لصالحه في الحرب النفسية ضدهم، واستخدمت هذا "التكتيك الجديد" لتثبت قدرتها على نقل المعركة من غزة إلى داخل الكيان الإسرائيلي.
"اختراق مجتمع العدو"
وفي وقت لاحق من الحرب، عمل مهندسو المقاومة وخبراؤها على بث رسالة القسام، ونقل الصورة الحقيقية للمعركة إلى الجمهور الإسرائيلي بكافة شرائحه، وتمثل هذا الجهد فيما يلي:
اختراق بث القناة العبرية الثانية، وهي من أهم القنوات واسعة الانتشار، وبث رسالة لمدة دقيقتين للجمهور الإسرائيلي، مذكرة إياه بغباء قيادته وتهورها، واختراق البريد الإلكتروني لمليون إسرائيلي، ووضع إشارة للقسام، وبث بيان بالصور لهم، عبر سيطرة الكتائب على نظام الرسائل الخاص بمجلس المستوطنات، وإرسال رسائل التهديد للإسرائيليين.
اختراق هواتف عدد كبير من الجنود على حدود غزة والصحفيين، وإرسال رسائل نصية وأخرى صوتية لهواتفهم الشخصية، تخاطب كل فئة منهم برسالة القسام في المعركة الدائرة، وقد تلقى مئات الإسرائيليين رسائل تهديد موقعة باسم كتائب القسام خلال أيام الحرب على غزة، حيث أرسلت مئات الرسائل النصية (SMS) على هواتفهم المحمولة.
وتم إرسال رسالة نصية لشركات الطيران التي تسيّر رحلاتها للكيان الإسرائيلي، وتحديدا مطار "بن غوريون"، حذرتها الكتائب من خطر الإقلاع والهبوط والسفر عبره؛ لأنه من بنك أهداف القسام، وتطالبها بوقفها؛ بسبب وجود مخاطر محدقة بكافة المطارات نتيجة للحرب.
أصدر جهاز (الشاباك) تحذيرا للإسرائيليين من القراصنة الفلسطينيين، الذين اخترقوا بعض المواقع الرسميّة والإعلاميّة، وقاموا بإرسال رسائل نصية، ما زاد من حالة القلق في أوساط المخابرات؛ بسبب تصاعد احتمالات تعرّض الشبكات لهجمات إلكترونية واسعة من قبل "هاكرز" داعمين للفلسطينيين.
وبدأت تتصاعد حملات القراصنة الفلسطينيين ضد الإسرائيليين بصورة تدريجية منذ بدء حرب غزة؛ لأنها استهدفت حسابات تعود لشخصيات عسكرية وسياسية إسرائيلية بارزة، وأرفقت صورا تظهر اختراقها، وأرسلت عبر تلك الحسابات رسائل تشمل صور مسلحين من الكتائب وبعض قادتها، وشعار "الهاكرز" الخاص بها، وطلبت من الإسرائيليين الرحيل عن فلسطين.
ودشنت كتائب القسام موقعها الإلكتروني الناطق باللغة العبرية لأول مرة، واتخذت الخطوة لمخاطبة الجمهور الإسرائيلي، بالتزامن مع تواصل العدوان على غزة، واحتوى الموقع على عدة أقسام تتناول عرض صور ومقاطع فيديو وأخبار الكتائب.
ولم يتوقف تلفزيون الأقصى التابع لحماس عن بث رسائل متواصلة باللغة العبرية للجنود يتوعدهم فيها بالموت في غزة إذا دخلوها برا، ويخبرهم بأن قادتهم ورطوهم في حرب لا قبل لهم بها، وعليهم انتظار الصواريخ.
وشعر الفلسطينيون أيام الحرب، خصوصا أثناء بث التلفزيونات الإسرائيلية برامجها، أن فضائية الأقصى تحولت لمخاطبة الإسرائيليين، وليس الفلسطينيين؛ لأن تلك القنوات تترجم ما يقولون على الأقصى أولا بأول، فيما نجحت كتائب القسام باختراق قنوات إسرائيلية عدة ثوان، وأظهرت مقاتلا بسلاحه وسط البحر.
وبث التلفزيون الحمساوي، بجانب فضائيات محسوبة على الحركة الإسلامية، صورا منتظمة لمقاتلين ملثمين يحملون قناصات وصواريخ، وصورا أخرى لراجمات الصواريخ تعمل، في تحد مباشر للجيش الإسرائيلي.
لقد ظهرت المقاومة في حرب غزة بحلة إعلامية جديدة، استطاعت الارتقاء بخطابها الإعلامي، وأوقعت في الوقت ذاته الجيش الإسرائيلي في وحل من التضليل لم يعتد عليه سابقا، ما انعكس على تصريحاته وأدائه الميداني، وجرت العادة لدى المقاومة لاستخدام وسائل الإعلام في عرض صور الغنائم التي تحصل عليها في أعقاب كل عملية، خاصة حطام الآليات العسكرية، وأجزاء من الدبابات المعطوبة، وأشلاء بعض الجنود القتلى.