لا يستطيع زعيم أو مسؤول تجاهل مؤتمر صحافي يعقده الرئيسان دونالد ترامب
وفلاديمير بوتين في ختام قمتهما في هلسنكي. نتائج القمة تعني كل سكان هذا الكوكب.
ثم إن المشهد مثير. لسيد الكرملين صورة تكاد تشبه مغامرات جيمس بوند وبراعاته. وهو
في المناسبة يحب ذلك العميل الذي أثار حماسة المشاهدين طويلا. ولسيد البيت الأبيض
صورة صانع العواصف كأنه لا يجيد العيش خارجها.
ألغى
حسن روحاني مواعيده وتفرغ لمشاهدة الحدث. لم يغير بوتين موقفه من الاتفاق النووي
مع إيران وامتدح بعض وجوهه. لكن بهجته باللقاء كانت شديدة الوضوح. التشديد على منع
الانتشار النووي كان صريحا ومثله تشديد ترامب على عدم إفادة طهران من نتائج الحرب
على «داعش».
لم
يشعر روحاني بالارتياح لدى تطرق الزعيمين إلى موضوع سوريا. صحيح أن الحديث عن
عملية جنيف و«الانتقال السياسي» غاب تماما، لكن الواضح أيضا هو أن أميركا تسلم
بسوريا الروسية لا سوريا الإيرانية. اتفاق الزعيمين على أخذ مستلزمات أمن إسرائيل
في الاعتبار في أي حل يعني بوضوح انكفاء الميليشيات الإيرانية بعيدا عن خط التماس
مع إسرائيل. وبقاء نظام بشار الأسد سيتم بالضرورة على حساب الأدوار الإقليمية على
أرض سوريا وتحديدا الإيراني والتركي.
رجب
طيب أردوغان تابع المؤتمر الصحافي باهتمام. انتابه شعور بأن مجرد انعقاد القمة
يذكر القوى الإقليمية بضرورة العودة إلى قدر من التواضع في رؤيتها لأدوارها
ومطالبها. كان يأمل في أن تنتهي الأزمة السورية برحيل «صديقه» السابق، لكن الرياح
لا تسير في هذا الاتجاه. إصراره على توجيه الضربات إلى الأكراد لن يبقي لهم غير
خيار الحوار مع النظام على رغم مرارات الماضي. شكا طويلا من أن أميركا خذلته أكثر
من مرة. هذه المرة خذلته روسيا في مناطق «خفض التصعيد».
بشار
الأسد تابع القمة باهتمام. سوريا حضرت من زاوية ضبط التدخلات الإيرانية وضمان أمن
إسرائيل والمساعدات الإنسانية للنازحين. طويت صفحة جنيف و«الانتقال السياسي» لكن
النظام سيكون مطالبا بتقليص حضور حلفائه الذين لا يترددون أحيانا في تذكيره بأنهم
أنقذوه من مصير محتوم. القصة خطرة وليست بسيطة ويصعب أن تكون سريعة.
تابع
بنيامين نتنياهو القمة بارتياح. أمن إسرائيل بند واضح وثابت. لم يذكّره الزعيمان
بعملية السلام. صداقته مع بوتين أضيفت إلى صداقته مع ترامب. أجاز له الرئيس الروسي
اختراق المظلة الروسية فوق سوريا لتأديب الوجود العسكري الإيراني. الأمن يعني
ابتعاد الإيرانيين عن خطوط التماس. تجربته علمته أن النظام السوري لن يقبل شركاء
على أرضه حين يستشعر زوال الخطر. يعتقد في داخله أن دمشق تفضل في النهاية الوسادة
الروسية على الوسادة الإيرانية.
لم
يفاجئ حديث الزعيمين ملك الأردن. تابع المؤتمر الصحافي كمن كان يتوقع. المفاوضات
حول الجنوب السوري أظهرت له أن أميركا سلمت بأن الملف السوري في عهدة الكرملين ما
دام أمن إسرائيل مضمونا. شعر أنه لم يخطئ في الحساب على رغم تبدل الرياح في الحرب
السورية. منذ اندلاع الحريق لم ينس إبقاء الخط مفتوحا مع القيصر.
ميشال
عون لا مشكلة لديه في الاتجاه الذي تأخذه الأحداث حاليا. التطورات قد تضعف منطق
خصومه وحلفائه معا. ومن يدري فقد يكتشف الجميع أن خيمة الدولة اللبنانية على رغم
الثقوب الكثيرة فيها تبقى أكثر رحمة من الخيام الأخرى. اتجاه الأحداث قد يرغم
القوى اللبنانية على التحلي بقدر من التواضع بعد تضخم الأدوار في الأعوام الماضية.
يصعب
الاعتقاد أن محمود عباس كان سعيدا وهو يرى إسرائيل تحجز موقعها في ترتيبات
المستقبل السوري بتوقيع ترامب وبوتين معا. الانشغال الدولي بالتدخلات الإيرانية
وأمن إسرائيل لم يترك متسعا من الوقت للتعريج على عملية السلام التي تسعل دما.
يمكن قول الأمر نفسه عن مسعود بارزاني المتمرس في المرارات. حين أطل «داعش» حاملا
الموت والخراب، استدعي الأكراد إلى الحرب ضده ولم يترددوا في تقديم دمهم. وحين
انحسر «داعش»، أجاز الكبار لحراس الخرائط تأديب الأكراد وإعادتهم إلى أيام ما قبل
الأحلام.
جاء
الرئيسان وذهب الرئيسان. غادر بوتين هادئا كما يغادر جيمس بوند في نهاية مهمة
ناجحة. وغادر ترامب كما تغادر عاصفة جوالة. تنتظره في أميركا اشتباكات ضارية بعدما
فضّل تصديق القيصر على تصديق المؤسسات الأمنية الأميركية.
الصحافيون
كائنات ضارة. استكملوا في هلسنكي معركة تصفية الحسابات مع الرئيس الذي لا يخشاهم.
طارد الصحافيون ترامب بالأسئلة حتى ظفروا بما يضرم حريقا جديدا في بلاده. سامحوا
الجالس على عرش ستالين وانهالوا على سيد البيت الأبيض.
غادر
الرئيسان وعادت هلسنكي مدينة عادية. لم يتابع السائق الفنلندي مجريات المؤتمر
الصحافي. بلاده ليست مهددة ولا تحتاج حاليا إلى التسول في مجال الأمن والاستقرار.
ذكرياتها مع الاحتلالات الشقيقة صارت من التاريخ. اعتبر القمة «ترويجا سياحيا جيدا
لمدينتنا الجميلة، وعلّها تشجع قدوم مزيد من السياح والمستثمرين». حسدت السائق
الفنلندي.
الشرق الأوسط اللندنية