في لبنان، ينتابك شعور بأن السياسة بكل وجوهها تصدر من شيء ركيك وغير صلب. ميل السلطة أخيرا إلى التضييق على الحريات العامة عبر اعتقال ناشطين ومغردين على صفحات التواصل الاجتماعي، ركيك وغير صلب أيضا.
لا نعني هنا أن الأسباب التي دفعت السلطة إلى توقيف الناشطين هي الركيكة، بل الفعل ذاته ركيك، وبعد أيام قليلة من قيامها به يمحى الفعل ولا يبقى منه إلا فضيحته. عبارة «السلطة» ذاتها ركيكة، ذاك أنها لا تردك إلى ما تردك إليه في الدول الأخرى! فعندما نقول «سلطة» لا يتراءى لنا أصحابها النظريون، لا يتراءى لنا رئيس الجمهورية على نحو ما يتراءى لنا بشار الأسد حين نلفظ العبارة في سوريا، أو بوتين حين نشير إلى السلطة في روسيا.
حين تقول «سلطة» في لبنان تختلط صور قليلة الانسجام وغير مفضية إلى تصورٍ واضح عنها. يحضر «حزب الله» مثلا بصفته الـ «سلطة»، وأحيانا تحضر صور القادة الروحيين للطوائف وإلى جانبهم سياسيو الطوائف وأهلها. أحيانا تتجسد السلطة في وجه جنرالات متقاعدين مثل جميل السيد، وحين يعقد مؤتمرا صحفيا، ويباشر بتحريك إصبعه على نحو ما يفعل الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله.
السلطة «النظرية» الساعية إلى الإيحاء بأنها «سلطة» غير مقنعة. أمس، اعتقلت رجلا يدعى رشيد جنبلاط بسبب تغريدة «غير لائقة» على حسابه على فيسبوك تناول فيها وزير الخارجية جبران باسيل. اقتحمت القوى الأمنية منزله واقتادته إلى السجن، ثم ما لبثت بعد ساعات أن أفرجت عنه. فالرجل من الطائفة الدرزية والأرجح أنه يمت بقرابة إلى زعيم الطائفة وليد جنبلاط، وهي بذلك اقتربت من «الخطوط الحمر»، فخصم وليد جنبلاط في الطائفة الوزير السابق وئام وهاب الذي من المفترض أنه حليف «السلطة»، دعا إلى إطلاق رشيد جنبلاط فورا، وهذا ما حصل.
لا أحد يشعر في لبنان بأن «السلطة» الساعية إلى أن تكون سلطة وأن تضيق على الحريات ستنجح في مسعاها. ومرد شعور اللبنانيين هذا ليس إلى صلابة نظام الحريات في بلدهم، بل إلى ركاكته أيضا. فالركاكة تشمل هذا النظام مثلما تشمل السلطات وأهلها وأصحابها وأصهارها. السلطة لـ «حزب الله» أولا وللطوائف ثانيا وللرؤساء والسياسيين ثالثا. جبران باسيل الذي يتهمه الناشطون بأنه يقف وراء حملة التضييق على الحريات، يأتي في ثالث مراتب السلطة بعد الحزب والطائفة. الرجل ليس قويا على نحو ما يصوره الناشطون، وعلى نحو ما يحلو له أن يظهر. فهو لم يقو على المواطن الدرزي رشيد جنبلاط، وهو إذ رفع سبع دعاوى قضائية على المواطن السني فداء عيتاني، يدرك أن ليس للأخير طائفة تحميه، فعيتاني سبق له أن شتم أركانا في طائفته وغادر لبنان.
ولأوهام السلطة في أنها سلطة في لبنان لحظات مجدٍ نادرة، تلتقي فيها «القيادة الروحية» للطائفة مع القيادة السياسية، فتنعقد السلطة على نحو بطاش. هذا ما جرى للناشط شربل خوري، ذاك أن الأخير «مواطن مسيحي» وهو تعرض لرموز طائفته فأصابه اليتم، وانقضت عليه السلطة، فسجنته وأوقفت حساباته على مواقع التواصل، وأكملت المهمة الشركة التي يعمل فيها فطردته من عمله. رفعت الطائفة الغطاء عن شربل، فولدت السلطة من لا شيء وتمكنت من الشاب اليتيم.
هذا أيضا ما أصاب عصابة الإتجار بالمخدرات في بلدة قرب بريتال بالبقاع اللبناني، فكل اللبنانيين يعرفون أن قتل أفراد هذه العصابة، على نحو غير مبرر ومبالغ في قسوته، جرى لأن «حزب الله» رفع الغطاء عن أفرادها. في البقاع، عشرات من أمثال أفراد هذه المجموعة يصولون ويجولون ويتاجرون علنا، وسيواصلون عملهم طالما أن الغطاء مؤمن لهم. والسلطة في مستواها الثالث لن تقوى على التعرض لهم. أما المثل الأبرز على هذا الصعيد فهو الفنان زياد عيتاني، فالسلطة اعتدت على حريته وعلى كرامته على نحوٍ جائرٍ، ولم يُنصفه أحد إلا عندما تبنت قضيته طائفته، وأوكل رئيس الحكومة (السني) جهاز أمن المعلومات إعادة التحقيق بقضية «المواطن السني» زياد عيتاني، فظهرت براءته وأفرج عنه. وهذا ما كان سيحصل لولا نجدة الطائفة مواطنها.
الحريات في لبنان ليست بخير، ليس لأن رجلا كجبران باسيل يحاول تقويضها. الحريات ليست بخير لأن نظام الركاكة أتاح للطوائف أن تُنشئ سلطتها الفعلية، وأن تحمي «مواطنيها» وأن تعاقبهم حين تحل ساعة العقاب.
عن صحيفة الحياة اللندنية