قضايا وآراء

اليمن الحزين

1300x600
تَعوَّدنا منذ زمن بعيد على وَسمِ اليمن بـ"اليمن السعيد"، غير أن اليمن يبدو منذ سنوات حزينا بسبب الحرب التي شُنّت عليه، فأنهكت كيانه العليل أصلا، وعرّضت مجتمعه المتنوع والمسالِم للإنهاك والاستنزاف الدائمين. فـ"الثورة السلمية"، التي انطلقت منذ العام 2011، لم تُفض إلى بناء التأييد حول إعادة تأسيس شرعية الدولة والسلطة، والحوار الوطني بكل أشكاله وتعدد أطرافه ظل مترنحا، بفعل تضارب الرؤى وضعف ثقافة التوافق والبحث عن المشترك. وحتى المبادرة الخليجية التي أوجدت "مخرجا سلميا" للنظام القديم، وأوصلت قيادة جديدة إلى السلطة، تبين بالتدريج أنها نُسجت خارج إرادة اليمينيين، وأنها تحمل الكثير من التعقيد وعناصر الفشل، قبل أن يُحولها صناعُها إلى حرب بلا هوادة ضد اليمن برمته.

لم تنجح كل المبادرات الأممية في تحقيق السلام في ربوع اليمن، رغم تعدد مبعوثيها، كما لم يستطع اليمنيون جمعَ كلمتهم لحماية بيتهم المشترك من الانهيار التدريجي، وحدها لغة السلاح، وتدمير المؤسسات، بما فيها المؤسسات المدنية الحيوية، هي التي ظلت سيدة الميدان، أما الموتى، والجرحى، والمهجرون من بيوتهم، وقتل الأطفال، والمسنين، والنساء، وكل الفئات الهشّة، فعجزت المنظمات الدولية عن مواكبة حصر أعدادها، لكثرتها، وضعف الإحصائيات الدقيقة عنها أحيانا. كان آخر فصولها، المجزرة الأخيرة التي طالت الصبيان والأطفال بالجملة، دون رحمة ولا شفقة، وعلى مسمع من "العالم المتحضر" وأنظاره.

يتذكر القارئ الكريم أن التحدي الأكبر الذي واجهه اليمن بعد انطلاق "ثورته السلمية" في 11 أيلول/ سبتمبر 2011، تعلق تحديدا بشعار الانفصال والعودة إلى ما قبل الوحدة (1990). والواقع أن الدعوة إلى الانسحاب من دولة الوحدة، واستعادة كيان الجنوب الذي صهرته اتفاقية 22 أيار/ مايو1990 مع شطر الشمال، بدأ رسميا مع تأسيس "الحراك الجنوبي" عام 2007، بل يمكن القول إن من الشعارات الكبرى الملهِمة لـ"الثورة السلمية" شعار نقد أداء تجربة دولة الوحدة في تحقيق الاندماج الوطني على كامل الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فقد تبين لقطاعات واسعة من اليمنيين أن حصيلة الحكم في ظل الوحدة (1990 - 2011) لم تُساهم في تأسيس دولة عضوية وتوطيد مؤسسات قادرة على إكساب اليمنيين هوية سياسية مشتركة، يصوغون بمقتضاها ولاءهم الجماعي للكيان الجديد الذي ولّدته دينامية الوحدة، كما أنها عجزت عن الحفاظ على منظومة القيم التي راكمها اليمنيون عبر تاريخ طويل، والتي شكلت دائما اللحمة الضامِنة لتماسك المجتمع واستقراره. فما لوحظ على دولة الوحدة، مساهمتها في خلق شروخ اجتماعية بين الجنوب والشمال وداخل أبناء الجنوب والشمال معا. بل إن الثروة المادية، على محدوديتها، احتكرت من قبل فئات متنفذة في السلطة، ومدعومة من لدن قبائل وعشائر مؤثرة في الحياة العامة اليمنية.

عطفا على الملاحظة أعلاه، أستحضر حديثا جمعني مع صديق يمني، التقيت به في ندوة دولية في العاصمة الأردنية عمان، وقد صادف ذلك يوم 20 كانون الأول/ ديسمبر 2013، الذي حددته محافظات الجنوب للإعلان النهائي عن الانفصال عن دولة الوحدة. وحيث إن هذا الصديق يحمل قبعتين، فهو جامعي وأكاديمي، وفي الآن معا ناشط ضمن قيادات النخبة في الجنوب، فقد قدرت أهميةَ ما قد يدور بيننا حول أحزان اليمن السعيد. سألته عن رأيه في حركة الانفصال التي يطالب بها الجنوب، وعما إذا كان دعاتهُا يمتلكون رؤية واضحة وواعية لما يسعون إليه، فكان جوابه أن ثمة شعورا بالضيم والظلم من قبل فئات عريضة من قبل الجنوبيين، وأن ثقتهم في دولة الوحدة تآكلت بالتدريج، وأن شرعية استمرار دولة الوحدة، أو حتى إعادة بنائها على قاعدة حوار وطني واسع، لم تعد مجدية ولا جذابة. وأردف قائلا: ومع ذلك يجب الاعتراف بأن ليس ثمة وعي واضح وعميق لما يمكن أن ينتج عن خيار العودة إلى ما قبل الوحدة من آثار عامة على حاضر اليمن ومستقبله دولة ومجتمعا. وحين سألته من جديد: هل يعني هذا أن اليمن سائر إلى المجهول؟ وأضفت ألم يعِ الجنوبيون خطورة ما قد ينجم عن خطوة الانفصال من أضرار جسيمة في غياب رؤية وقيادة واضحتين؟ أليس مجديا البقاء ضمن عباءة الحوار الوطني على علَله كما تعتقدون؟ كان جوابه الصريح أن القرار في اليمن عموما ليس بإرادة أبنائه، وأضاف أن اليمن تتجاذبه موجات تأثير متعددة، منها ما هو إقليمي قريب منه، ومنه ما هو دولي.

لذلك، تبدو مشكلة اليمن شبيهة بمشاكل بعض البلدان العربية (العراق، سوريا، لبنان، ليبيا)، لا يمتلك أبناؤها إرادة تقرير مصيرهم بأنفسهم، بل إن مصيرهم مرتبط بصراع القوى الإقليمية والدولية، وبمدى تقدم هذه الأخيرة على طريق التوافق من إيجاد مخارج متفاوض حولها. إن أخطر ما ينتظر اليمن أن يستكمل انهيارُه المتواصل دائرتَه، ويتحول إلى قطع متشظّية، أو محميات في حسابات التوسع الإقليمي. ومن ينظر إلى مستجدات تطور القضية اليمنية، ينتابه شعور بأن اليمن سائر في هذا الاتجاه، وأن فرص استعادته سعادته تتآكل يوما بعد يوم.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع