إن سياسة فرق تسد "Divide and Conquer" أو "Divide and Rule"، ليست وليدة اليوم أو وليدة الاستعمار الإنجليزي لأراضينا، هي سياسة متبعة منذ العصور القديمة وقد اتبعها الإغريق والرومان، ثم نابليون وما بعده من دورة الاستعمار الأوروبي، ومن بعدهم السيادة الأمريكية.
وسقط الكثير من أصحاب الروح الوطنية وبعض القوى السياسية في ذلك الفخ وحققوا لقوى الاستعمار ما كانت تصبو إليه، ناهيك عن دور قوى الرجعية وأصحاب النفوس الضعيفة ممن يسهل شراؤهم، فلم تسلم حركاتنا وثوراتنا عبر التاريخ من ذلك. وقد كانت فترة الخمسينيات من القرن الماضي هي الفترة الذهبية لعصر الثورات، والتي دفعت القوى الرجعية للإجماع على ضرورة إيقاف رياح التغيير قبل أن تمتد، وعلى ضرورة إسقاط ما قوي وتمكن منها.
فلقد اندلعت عدة ثورات كبرى في نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات، ما بين العراق وسوريا والجزائر، وكانت أكبر الثورات ثورتا
مصر وإيران، وإن كانت ثورة إيران اندلعت بانتخاب مصدق رئيسا للوزراء. وعندما نسمي انتخابه ثورة، فنحن لا نبالغ، فقد بدأ بإحداث التغيير الثوري المنشود، من حيث إصلاح النظام الزراعي وإحداث التغيرات الاجتماعية المنشودة وحتى تأميم البترول، فانطلقت قوى الرجعية في المنطقة والدولة العميقة في الداخل تحت توجيه وتخطيط المخابرات الأمريكية والبريطانية، ولم تكن تستطيع أن تحقق الانتصار لولا أنها استمالت المرجعيات الدينية الإيرانية بحجة مكافحة الشيوعية، فأحدثت بذلك الفرقة بين القوى الوطنية، وتمكنت من إسقاط ثورة التغيير التي كادت أن تغير الميزان في المنطقة.
سواء اختلفنا أم اتفقنا على حركة 52 في مصر، فإنها تحولت إلى ثورة في ذات الاتجاه، وامتدت يدها لثورات المنطقة وبدأت بتأميم قناة السويس. ولأن
الثورة كانت متحكمة في الجيش، فقد فشلت فكرة الانقلاب وكانت الحرب الخارجية في عدوان 56، وما تلاها من أحداث حتى عام 1970. وذات النهج المتبع مع إيران، استخدم بعض ضعاف النفوس وذات الألاعيب والإيقاع بين التيارات الدينية والتوجه التحرري؛ الذي لا شك في أنه كان يتجه شرقا وفقا لموازين القوى في ذلك الوقت (قارن تحركات تركيا اليوم، فعدنا لذات المنهج "فرق تسد").
لقد حوربت الثورتان بذات المنهج، وبقاؤهما وانتصارهما كان يمثل هزيمة لعدة جهات، على رأسها الحركة الصهيونية والسيطرة الاستعمارية والشركات الاحتكارية والرجعية العربية، وعلى رأسها آل سعود وحلفاؤهم في المنطقة. ومن المعروف دور
السعودية في تعويض النقص في البترول حين تم فرض حصار البترول على إيران لإسقاط مصدق، وتمويلها لمحاولات إسقاط النظام في مصر والتشجيع على عدوان 1967، وتوافق ذلك مع أعداء الخارج، وهو ذات الدور الذي تلعبه هي والإمارات اليوم، ويكفي هنا أن نستشهد بأعدائهم.
فكما قال بن غوريون، حثا على العدوان الثلاثي: "على أصدقائنا المخلصين في باريس أن يقدّروا أن عبد الناصر الذي يهددنا في النقب، وفي عمق إسرائيل، هو نفسه العدو الذي يواجههم في الجزائر". وكما قال الكاتب الصحفي ستيفن كينزر: "في بداية أوائل الخمسينيات وبتوجيه من وودهاوس، مدير المخابرات البريطانية في محطة طهران، مولت شبكة العمليات السرية البريطانية حوالي عشرة آلاف جنيه شهريا للإخوة راشديان (اثنان من أشد الملكيين الإيرانيين نفوذا) على أمل شرائهما".
لقد امتدت تفرقة الأمس التي فتتت القوى الوطنية من مسلمين ومسيحيين ويسار وإسلاميين إلى يومنا هذا، فتكررت أحداث القرن الماضي. فمثلما وقع مع مصدق وناصر، حيث نجحت قوى الرجعية والهيمنة الغربية في افتعال الخلاف بين المشروع القومي والإسلامي، تعود ذات القوى اليوم في حربها ضد نتاج الربيع العربي والثورات العربية ومحاولات ضرب التجربة التركية. وأكبر مثالين على ذلك ما جرى ويجري مع مرسي وأردوغان، وامتدت الساحة لتسعى للإطاحة بإيران، ما سهل من إشعال الفتنة بين الشيعة والسنة، كما هي بين المسيحيين والمسلمين. وما زال آل سعود، وتعاونهم اليوم الإمارات، يقومون بذات الدور من تدمير القوى العربية وإضاعة مواردها والتفريط في حقوقها لتمكين أعداء الأمة.
لقد استمر مخطط "فرق تسد" حتى يومنا هذا، وما زلنا نضيع الفرصة تلو الأخرى ليستمر الصراع بين القوى الوطنية.. صراع منطقي لو دار في حلبة انتخابات نزيهة، ولكنه غير منطقي، بل ومرفوض أن يدور على أرض يديرها من لا انتماء وطنيا لهم، بل إن انتماءهم لأعداء الوطن وليس للوطن.
وبعد إسقاط التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر بالانقلاب على د. مرسي، ولأننا لا نتعلم من دروس الماضي ولا نقرأ من التاريخ إلا السطور التي تروق لنا، عادت قوى الرجعية والصهيونية والإمبريالية العالمية لممارسة ذات الدور، وبذات الأسلوب، اليوم مع إيران وتركيا. حقا هي لم تتوقف ولا لحظة، ولكنها تشتد الآن لاقتراب المرحلة الأخيرة من تصفية الشرق الأوسط لصالح الصهيونية.
لقد كانت مصر وإيران رأس الحربة في المعركة مع السيطرة الغربية والرجعية العربية، فتركناهما بل وحاربناهما، فأسقطنا مشروعات التقارب العربي الأفريقي الإسلامي ليستبدل بها التقارب الصهيوني الأفريقي العربي، ووقعنا في فخ التهليل لسقوط الاتحاد السوفييتي، والذي مثّل التوازن بين القوتين الإمبرياليتين، فوقعنا في فخ كبير نصبته المافيا الدولية لفرض سيطرتها، وذراعاها العربيان هما آل سعود وآل زايد.
وإن كانت الخمسينيات وضعت مصر وإيران كرأس الحربة، فإن إيران وتركيا اليوم هما أمل المنطقة بكل أطيافها وفئاتها وأيديولوجياتها. فهل تقف كل القوى الثورية والوطنية معهما، رغم الاختلافات والخلافات، أم نظل متخندقين ومدججين بأيديولوجيات وطائفية، ونضيع فرصة هي الأخيرة في هذا العصر؟