كعادة معظم الناس، فإنني أترك راديو السيارة مفتوحا على محطة إذاعية، وغالبا ما تكون تلك المحطة عربية، يصدر منها كلام كثير في الفاضي، وقليل في المليان، وقبل أيام تسلل الى إذنيّ كلام عجيب، سبق لي أن سمعته ولو بمفردات مختلفة قليلا: أعداء العرب يتآمرون على
اللغة العربية بهدف القضاء عليها.
هل الأمريكان والإسرائيليون هم من فرضوا علينا تبادل التحية بـ"هاي / باي"؟ وهم من أقنعونا بأن كلمة زيرو أكثر دقة من صفر؟ وهم من وضع مناهج اللغة العربية العقيمة والمنفرة في مدارسنا حتى صارت اللغة العربية كحساب المثلثات مشبعة بألغاز من شاكلة جيب الظل وجتا وحتى ومتى؟
أرضعنا الإعلام الرسمي وفطمنا، على أن بؤس حال الخدمات من تعليم وصحة وطرق وغيرها، يعزى إلى أن أعداء الأمة يتربصون بنا، وهكذا نشأنا على أن أعداء الأمة هم الإسرائيليون والأمريكان.
وسأتوكل على الله وأنفي عن إسرائيل والولايات المتحدة تهمة التآمر علينا، و"نا" الجماعة هنا تعود الى الشعوب، وبالتالي فإنني أقول إن أكبر متآمر على المواطن العربي هي الحكومات العربية، والتي سيصرخ مرتزقة الإعلام قائلين: حرام عليك فالدول العربية - باستثناء مصر والأردن - ما زالت رسميا في حالة حرب مع إسرائيل، ولكننا نعرف أنها حالة لا تختلف عن حب مراهق لنانسي عجرم، أي أنها حالة حرب افتراضية، لا تأخذها إسرائيل مأخذ الجد، وحالة حب لا تحفل بها العجرمية.
ولا يستقيم الزعم بأن الولايات المتحدة تتآمر على العرب، مع التهافت المبتذل لخطب ودها، واعتبار دعوة زعيم عربي لواشنطن فتحا مبينا.
ولكن الزعم بأن هناك جهات تتآمر على اللغة العربية، سخف ينم إما عن خفة في العقل، أو استخفاف بالعقل الجمعي لعموم العرب، فلم نسمع أن شخصا طبيعيا أو اعتباريا في حلف الناتو أو الفيفا أو الكونغرس أو الكنيست او الكرملين ذكر اللغة العربية بسوء.
بل إنني زعيم بأنه ما من فرد أو دولة تتآمر على الإسلام، مهما حمل رسميون وشعبيون في الشرق والغرب الإسلام تبعات جرائم يرتكبها مسلمون متطرفون في ديار الإسلام وديار النصرانية؛ لأنه يستحيل التآمر على أي معتقد يدين به الناس.
وأصلا، كيف تتآمر على الاسلام؟ بطباعة نسخة مزورة من القرآن الكريم؟ سيكون ذلك خدمة ليس للإسلام فحسب، بل لأنصار نظرية
المؤامرة المسلمين، الذين ستزداد صفوفهم عددا، وعتادا يرش بالدم من يرش الإسلام بالحبر. أبتكذيب بعثة محمد عليه السلام؟ منذ فجر البعثة الأول وإلى يومنا هذا ما زال مكذبوها يرغون ويزبدون، وليس في الأمر تآمر، بل عمل مكشوف يرتد على مرتكبيه إحباطا؛ لأنهم يدركون في مرحلة ما أن القافلة لا يوقفها نباح الكلاب.
وصحيح أن تبشيريين أمريكان يكيلون السباب للإسلام والمسلمين عبر أدوات إعلامية قوية، ولكن السباب العلني ليس مؤامرة، فهو شتائم ومسبّات تتطاير في الهواء وزبد يذهب جفاء، وليس فيه ما ينفع من صدرت عنهم، ولا ما يضر المستهدفين بها.
والزعيم السياسي الوحيد الذي هاجم الإسلام علنا وصراحة، هو الهولندي غيرت فيلدرز، صاحب مقولة "لا يوجد إسلام معتدل بل يوجد مسلمون معتدلون"، ولكن مهما اشتط هو أو غيره في كيل رخيص القول للإسلام، فإن ذلك لا يرقى الى مؤامرة.
حتى ونحن نعرف أن هنالك عداء مؤسسيا للإسلام في الغرب، فلا يجوز أن نسمي ذلك مؤامرة؛ لأن الإسلام ليس قابلا للتآمر عليه، بل ليس من الممكن التآمر على النظريات والمعتقدات الوضعية، وقد عادت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الشرق والغرب الشيوعيين، ولكن لم يقل أحد أنهم يتآمرون على الشيوعية؛ لأن العداء كان موجها للنظام الشيوعي ورموزه الكبيرة، فليس من الممكن أن تتآمر على شيء مجرد.
وبالتالي فإنه، ورغم كل الهتر الذي يستهدف الإسلام والمسلمين، إلا أن الإسلام كعقيدة سماوية يدين بها مليار ونيف من البشر، ليس هدفا لأي مؤامرة باي قدر أو درجة، ليس فقط لأن من أنزل الذكر له حافظ، ولكن أيضا لأنه لا طائل أو مردود من مثل تلك المؤامرة.
والشاهد: حتى خصوم الإسلام وكارهوه يدركون أنهم أضعف من أن ينالوا منه، وإذا كانت هناك مؤامرة على الإسلام والعرب والمسلمين، فهي مؤامرة محلية وليست أجنبية، وأعداء الإسلام هم من يريدون للمسلم ان يعيش ذليلا خائفا ضعيفا جائعا جاهلا وأصم وأبكم، وحتى لو كانت تلك رغبة واشنطن وتل أبيب، بمن ينفذونها عرب ومسلمون.
لم تقمع الولايات المتحدة أو إسرائيل المسلمين كما فعل الحكام المسلمون، فيا عباد الله كفوا عن رماية تل أبيب بادواء قادتكم، فما فيها يكفيها، ولديها جرائم ارتكبتها بعرق جبينها، ولم يكن ذلك تآمرا بل على المكشوف، وجنت منه النتائج التي كانت تنشدها في أعوام 1949-1967-1973، فابحثوا عن المسؤولين عن النكبة والنكسة في صفوفكم.
كفانا ببغاوية اختارها لنا قادة غوبلزيون، جعلونا نتوهم أن طرفا غيرهم يستهدف ديننا ولغتنا وأرضنا وعرضنا، بينما هم سمن على عسل مع ذلك الطرف، ولا يدركون، وهم في غيهم يعمهون، أنهم سيحصدون يوما ما عواقب لعق ذينكما السائلين المسببين لعلل قاتلة.
رحم الله أبا الطيب:
حَتّامَ نحنُ نُساري النّجمَ في الظُّلَمِ... ومَا سُرَاهُ على خُفٍّ وَلا قَدَمِ