على الرغم من تحقيق
المغرب تراكما مهما في مجال التداول الوطني لإصلاح منظومة التربية والتكوين، انتهى في الأخير لإنتاج وثيقة الرؤية الاستراتيجية، وتعليمات الملك لتحويلها إلى قانون إطار، إلا أن التطورات التي عرفتها هذه السنة، تعطي إشارات مقلقة، وتكشف عن وجود توتر صارخ بين تطلع لإصلاح جوهري للقطاع، وسياسات جارية تؤسس للفوضى العارمة.
أولى مؤشرات هذا التوتر، ما تسرب من مفردات عامية في المنهاج الدراسي للغة العربية، والذي أثار ردود فعل شعبية غاضبة، لم تلتقط وزارة التربية الوطنية رسائلها، فسارعت لتدبيج بلاغين يدافعان عن الاختيار البيداغوجي المقحم
للدراجة في المنهاج الدراسي، ويعمقان الأزمة، لولا
تدخل رئيس الحكومة وحسمه للموضوع.
ثاني مؤشرات هذا التوتر، هو الإعلان الرسمي عن تحمل الدولة لمسؤوليتها في تبني التعليم الأولي في أسلاك التعليم، وإطلاقها لأرقام جد واعدة، دون أن تكون مهيأة لهذا الرهان الاستراتيجي، إذ تتطلب الدفعة الأولى التي قررتها الدولة لبدء هذا التعليم، استهداف 100 ألف طفل، مما يعني حاجتها لأزيد من 10 آلاف مؤطر تربوي، وما يستلزم ذلك من جاهزية تكوينية ومالية غير متوفرة.
ثالث مؤشرات هذا التوتر، هو واقع الخصاص المهول الذي تعاني منه الموارد البشرية التابعة لوزارة التربية الوطنية، والتي تقلصت بشكل كبير بسبب العدد الهائل من المتقاعدين الذين غادروا قطاع التعليم، ويتوقع استمراره بوتيرة أكبر في الخمس سنوات القادمة. وقد حاولت الوزارة التغطية عن هذا المشكل، لكنها في الأخير وجدت نفسها ملزمة بالكشف عن خياراتها لمواجهة هذا العطب البنيوي، فأصدرت قبل يومين مذكرة استرجاع مواردها البشرية، والتي سيكون لها آثار جد سلبية على القطاع. إذ وضعت هذه المذكرة الحد لاشتغال أطر التدريس في المهام الإرادية، واتجهت إلى تضييق مساحة "الإلحاق" و"الوضع تحت إشارة" الإدارات الأخرى، فضلا عن استدعاء المعاقين الذي أعفوا من التدريس لمدد مؤقتة، بعد عرضهم على لجان صحية تبث من جديد في ملفاتهم.
المؤشر الرابع على هذا التوتر، هو التناقض القائم بين حاجيات الجامعة من أطر التدريس، ومشمول هذه المذكرة الجديدة، خاصة بعدما وجدت كتابة الدولة في التعليم العالي مخرجا لنقص المناصب المالية، واتجهت إلى فتح مجال للموظفين الحاملين لشهادة الدكتوراه، للالتحاق بالجامعة للتدريس، في حين تشدد مذكرة وزارة التربية الوطنية على تحصين مواردها الحالية، واسترداد جيشها الاحتياطي التائه في الإدارات الأخرى.
خامس هذه المؤشرات، هو السعي الحثيث لتغيير لغة التدريس، ضدا على مخرجات الرؤية الاستراتيجية، التي اعتمدت مبدأ التناوب اللغوي بشروط في
اللغات (اللغتين الفرنسية والإنجليزية)، والمستويات (الثانوي والإعدادي فقط)، والآجال (المدى القريب والمدى المتوسط والمدى البعيد)، والكيفية (التدرج واستحضار معيار تقييم التجربة) وأجزاء المنهاج المشمولة بذلك (المضامين والمجزوءات)، فقصرت التدريس باللغات ألأجنبية على المضامين دون المواد، وعلى التعليم الثانوي في مرحلة أولى ثم الإعدادي في مرحلة لاحقة لكن دون الابتدائي، وميزت بين المدى القريب والمتوسط، وأكدت على أن اللغة العربية هي اللغة الأساس للتدريس، في حين، يتجه مشروع القانون الإطار كما هي النسخة الصادرة عن المجلس الوزاري، وكذا المشروع الذي قدمه وزير التربية الوطنية بين يدي الملك، إلى اعتماد اللغات الأجنبية في تدريس المواد، لاسيما المواد العلمية والتقنية، مما يعني إنهاء مسار التعريب بشكل كلي، إذ قبل أن تتم المصادقة في البرلمان على إقرار القانون الإطار، تسارع اليوم الأكاديميات والمندوبيات الإقليمية للتعليم إلى إصدار مذكرات توجيهية تدعو لتدريس المواد العلمية والتقنية ابتداء من السنة السابعة إعدادي باللغة الفرنسية، بل إن بعض المندوبيات، كما حدث في مندوبية القنيطرة، أصدرت مذكرة تدعو المدراء لاعتماد
اللغة الفرنسية كلغة أساسية في التدريس.
سادس هذه المؤشرات، هو حجم الخطابات الرسمية التي تنتقد بشدة الشعب الأدبية، وتتهم الكليات ذات الاستقطاب المفتوح بإنتاج العاطلين، وحجم الضغط الممارس على منتجي السياسات التعليمية للانعطاف الكلي نحو التعليم المهني، أو وضع البيض كله في الشعب والتخصصات المرتبطة بسوق الشغل.
والواقع، أن الدولة تستشعر خطورة الفوضى القائمة في مجال التربية والتكوين، وتمتلك تراكما كبيرا في مجال التشخيص سواء مع اللجان الملكية أو الوطنية التي استحدثت لإصلاح التعليم، أو مع المجلس الأعلى للتعليم في نسخته القديمة، والذي أنتج وثيقة مهمة في ذلك، أو مع المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، الذي أنتج الرؤية الاستراتيجية.
لكن الخطى التي تتجه بها لإصلاح التعليم، يمكن أن تقودها لفوضى أكبر، خاصة وأن الطموحات المشروعة إذا تم تنزيلها بصورة لا تتحملها الإمكانات الموجودة، فيمكن لها أن تعقد الوضعية أكثر، فالقطاع الذي لم يستطع إلى اليوم أن يحل مشكلة الخصاص الذي تسبب فيه مغادرة موجات المتقاعدين، لا يمكنه أن يفتح جبهة أخرى للتعليم الأولي الذي يتطلب موارد بشرية كبيرة ومكونة تكوينا متخصصا.
إن تجربة المتعاقدين تقدم صورة عن الفوضى المتوقعة في قطاع التربية والتكوين، فقد تشغيل هؤلاء دون تكوين ممأسس وتحملوا مسؤولية التدريس في ظل تحولات قيمية خطيرة مست بنية المدرسة العمومية، وهم يحملون هما احتجاجيا (إدماجهم في الوظيفة العمومية) يمنعهم من التكيف مع طبيعة الأدوار المطلوية منهم.
يظهر ذلك أيضا على مستوى مسارعتها إلى فرنسة التعليم بهذه الفجائية والسرعة القصوى، دون استحضار شروط إنجاح هذه المهمة، على فرض جدواها. فالمدرسون الذين درسوا المواد العلمية والتقنية باللغة العربية، ودرسوها بنفس اللغة طوال الفترة التي تحملوا فيها مهمة التدريس، لا يمكن أن يتحولوا بين عشية وضحاها إلى مدرسين لهذه المواد باللغة الفرنسية دون تكوين وتأهيل، كما لا يمكن تصور هذه المهمة، دون إعداد العدة البيداغوجية، إذ حتى الآن، لم تنطلق أي عملية مراجعة للمنهاج على قاعدة تغيير مادة التدريس، وإنما الحاصل هو تعليمات تدعو لتدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية بمنهاج دراسي معتمد باللغة العربية.
والتقدير أن الدولة تعي حجم الخصاص، وتدرك محدودية الإمكانات الموجودة، وعدم قدرة المالية العمومية على توفير مستلزمات المدرسة العمومية، لكنها تمضي بهذه السرعة، وبهذه الطموحات الكبيرة، لتسابق الزمن لخلق واقع على الأرض يصعب معه أن يتجه النقاش التشريعي في البرلمان لمشروع القانون الإطار خارج الواقع المفروض على الأرض، لا سيما ما يتعلق بلغة التدريس. أما ما يرتبط بالتعليم الأولي، فأغلب الظن أنه يشكل حلقة أخرى من حلقات استكمال استراتيجية تربوية وثقافية ودينية لامتلاك مساحات الـثير واحتكارها وانتزاع المساحات من نخب أخرى؛ باتت - حسب تقدير جهات في الدولة - تتغذى من مؤسسات الحقل التربوي والتعليمي.