ملفات

اليمن.. تحالف هشّ وحرب بالوكالة تتحول إلى صراع عبثي

الحرب أجهضت ثورة اليمنيين الجديدة ومشروعهم السياسي في بناء دولة اتحادية ديمقراطية متعددة الأقاليم (الأناضول)

مضت حتى الآن ثلاث سنوات وسبعة أشهر على بدء عاصفة الحزم، وهي عملية عسكرية شاملة قادتها ولا تزال المملكة العربية السعودية، وضمت عشر دول كلها عربية عدا باكستان، وبين هذه الدول شاركت خمس دول خليجية (تراجعت إلى أربع بتد خروج قطر)، وبأدوار متفاوتة من حيث الحجم.

وهدفت هذه الحرب إلى إنهاء الإنقلاب الذي نفذه الحوثيون المدعومون من إيران وحليفهم الرئيس السابق علي عبد الله صالح ضد النظام الانتقالي بقيادة الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي، وحماية الحد الجنوبي للمملكة ومواجهة المد الإيراني وتفادي سيطرة إيران على باب المندب.

أكبر تدخّل عسكري عربي

يجمع المراقبون على أن "عاصفة الحزم" مثلت أهم وأكبر تدخل عسكري عربي يُقّرَّر بناء على أولويات داخلية للدول المؤثرة فيه وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، المحكومة بمخاوف حقيقية من إمكانية اتساع نفوذ إيران وأدوارها تحت الغطاء الأمريكي المباشر، خصوصاً وأن طهران كانت على مسافة أشهر قليلة من التوقيع على الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1 التي تضم الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن زائداً ألمانيا( وقع في 14 تموز/يوليو 2015).

أثارت عاصفة الحزم عاصفة موازية من الأمل الذي أنعش الملايين من اليمنيين والسعوديين في المقام الأول ومعهم العرب، والذين عاشوا قبل ذلك حالة يأس وإحباط شديدين وهم يرون المملكة العربية السعودية تضع كل إمكانياتها في معركة الدفاع عن الأنظمة الدكتاتورية المتهاوية التي ثار عليها الشباب فيما عرف بثورات الربيع العربي.

 لكن أكثر ما أثار إحباطهم هو السياسات المتشددة وغير المعهودة التي تبناها العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وساهمت بشكل متسارع في تغيير قواعد اللعبة في اليمن لصالح الطرف الذي تدعمه إيران وهم الحوثيون، وفي دعم تحركهم العسكري باتجاه العاصمة صنعاء وإسقاطها لتحقيق عدة أهداف من بينها إضعاف النفوذ السني في هذه العاصمة، وهو الهدف الذي أثار قدراً كبيراً من الاستفزاز لقطاع واسع من المجتمع ونخبه في الداخل السعودي أكثر مما أثار اليمنيين المدافعين عن ثورة الحادي عشر من شباط/فبراير 2011.

تحالف هشّ

وعلى الرغم مما وصفه المراقبون في بداية انطلاق العاصفة من قدرة غير معهودة لدى السعودية على حشد تحالف عسكري بهذه السرعة، إلا أن ثمة تحديات عديدة اعترضت مهمة الرياض من أجل تأمين حشد كهذا، وهي تتدخل مجدداً في الساحة اليمنية بهدف التأثير في المسار السياسي والعسكري والمستقبلي لجارها الجنوبي.

فقد سبق للمملكة أن وضعت إمكانياتها المالية والعسكرية في ستينيات القرن المنصرم، لصالح تدخل إقليمي دولي، العنصر الأساسي فيه هم المرتزقة، لمواجهة ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1963 التي أطاحت بآخر إمام زيدي في صنعاء هو محمد البدر، والذي يحاول الحوثيون من خلال انقلاب 21 أيلول/ سبتمبر 2014 إعادة إحياء هذه الإمامة المقبورة، بصفتها حقاً سلالياً إليهاً في الحكم. 

ومن المؤسف أن السعودية في هذه الأثناء تعيد توجيه أهدافها لتتطابق مع أهداف تدخلها في الستينيات، أي إجهاض ثورة اليمنيين الجديدة ومشروعهم السياسي في بناء دولة اتحادية ديمقراطية متعددة الأقاليم.

ضم التحالف العربي بقيادة السعودية كل من: الامارات، قطر، السودان، الأردن، البحرين، الكويت، مصر، المغرب، وباكستان. ولم يبق من بين دول التحالف التي تشارك في العمليات العسكرية المباشرة البرية والجوية سوى أربع دول تقريباً هي: السعودية والامارات والسودان والبحرين.

بداية التآكل

انسحبت قطر من التحالف، في الخامس من شهر حزيران/يونيو، وسحبت 1500 ضابط وجندي كانوا يقاتلون في الحد الجنوبي للمملكة، بعد أن فُرض عليها الحصار من جيرانها: السعودية والإمارات والبحرين، ضمن مخطط كان يتضمن تدخلاً عسكرياً لاحتلالها جرى إيقافه في آخر لحظة.

وبالإضافة إلى ملابسات انسحاب قطر، جمد المغرب مشاركته تقريباً في العمليات العسكرية، وحصرت باكستان مشاركتها على نشر محدود لعناصر من جنودها داخل الأراضي السعودية وهي استمرار لتعاون قديم بين البلدين، بعد أن رفض البرلمان الباكستاني إرسال قوات للمشاركة  بالحرب الدائرة في اليمن.

 وقيدت مصر مشاركتها في العملية العسكرية بالمهام البحرية وبفترات زمنية يجري تجديدها كل ثلاثة أشهر عبر مجلس الامن القومي. فيما شهدت العلاقات الأردنية السعودية، تطورات سلبية، وصلت حد تورط الرياض في تضييق الخناق الاقتصادي على الأردن لحمله على القبول بصفقة القرن التي تقضي ابتداء بتنازله عن حق الوصاية على المقدسات في القدس الشرقية ومنها المسجد الأقصى، في ظل سيناريوهات كانت تُناقش في واشنطن عبر اللوبي الإسرائيلي لإنهاء الحكم الملكي في الأردن، وتهجير الفلسطينين إلى الأردن ليكون هو الوطن البديل.. 

وحتى السودان الذي يشارك بأكثر من خمسة آلاف جندي في العمليات العسكرية البرية في اليمن، لم يسلم من المؤامرة عليه من جانب الرياض-ابوظبي وهي مؤامرة كانت تهدف إلى الإطاحة بنظام الرئيس البشير وإنهاء ما يعتقد أنه حكم "الإخوان" في هذا البلد، وهو هدف يتحكم بمجمل السياسات المتطرفة لولي عهد ابوظبي ظبي محمد بن زايد وولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

وهكذا شهد التحالف وبشكل متتال نكساتٍ ساهمت في انكماشه ليتحول التدخل العسكري في اليمن إلى مغامرة ثنائية سعودية ـ إماراتية، سنرى فيما بعد كيف تبدلت أهدافه وغاياته المعلنة إلى حد تكاد معه السعودية على وجه الخصوص أن تواجه خطر الغرق في مستنقعٍ هي وحدها المسؤول عن ضخ كل هذا الوحل فيه.

حرب بالوكالة

تحولت الحرب في اليمن إلى حرب بالوكالة، بكل ما تعنيه من دلالة لهذا المصطلح على صراع الأجندات والمصالح والأطماع. وإذا كان هناك من طرف يحرص أن يكرس هذا النوع من الحروب في اليمن فليس إلا تحالف الرياض-ابوظبي، الذي يحاول أن يدفع بها لتصبح حرباً عربية ـ فارسية.

لهذا نرى أن السعودية والإمارات تركزان في حربهما على توظيف العناصر الأكثر اندماجاً مع  توجه كهذا، فمعظم الذين يقاتلون في الجبهات التي تسير قدماً وإن ببطء وخصوصاً في الساحل الغربي وفي محافظتي صعدة وحجة، هم من العناصر السلفية الذين يدينون بالولاء من الناحية العقائدية للسعودية، وبالولاء العسكري للقيادة العسكرية الإماراتية، ولا تمثل أولويتهم العسكرية التي تشكلت مؤخراً جزءا من الجيش الوطني ولا قوام وزارة الدفاع وهيئة الأركان اليمنيتين الشرعيتين.

وهذه الأولوية لا تدخل ضمن حساباتها الانتصار للمشروع السياسي المتفق عليه من كل اليمنيين وهو إقامة الدولة الاتحادية الديمقراطية متعددة الأقاليم، بل مواجهة ما يسمى بالمد الرافضي، وكل الشعارات والأناشيد التي تردد في ميادين القتال تصب باتجاه التحريض الطائفي وتكرس فكرة الحرب الطائفية وليس الصراع ذي الجذور السياسية بالأساس.

وإن ما يستوجب التنويه إليه في هذا السياق هو أن إيران استفادت من الأخطاء الكارثية للرياض وأبوظبي في اليمن قدر استفادتها من الأخطاء ذاتها التي مكنت النفوذ الإيراني من التغلغل بصورة كبيرة جداً في كل من العراق وسورية ومن قبل ذلك في لبنان. 

فقد دخلت إيران العاصمة صنعاء من أبوابها الطبيعية لتتحكم بالقرار السيادي لليمن، وكل ذلك حدث بإمكانيات السعودية وأموالها وأدواتها للأسف الشديد، ولم تكن لتستطيع تحقيق هذا الهدف لولا الحماقة التي غلبت على القرارات المتسرعة للقيادة السعودية وللإيعازات السيئة التي جاءت من أبوظبي.

وحشدت السعودية كل الإمكانيات المتاحة لها في اليمن دفعة واحدة لإسقاط ما تعتبره نفوذ الإخوان المسلمين في صنعاء الذي يعتقد أنه تعزز بنجاح ثورة الـ11 من شباط/ فبراير2011، وتجاهلت عمداً أن التغيير كان محصلة سير شاق للشعب اليمني في نفق طويل ومظلم طيلة فترة حكم علي عبد الله صالح الذي أوصلته السعودية إلى سدة الحكم.

المآلات السيئة للحرب

منذ أن دخل التحالف مدينة عدن بُعيد استكمال استعادتها من ميلشيا الحوثي الانقلابية وقوات صالح في 17 تموز/ يوليو 2015، بدأ التفكير من قبل القيادة الإماراتية للتحالف في عدن، في تصفية تركة المقاومة الوطنية التي يهيمن عليها مقاتلو الإصلاح (إسلامي) والسلفيون، خصوصاً من يطلق عليهم "السروريون".

أعدت الإمارات لائحةً من عشرات الأسماء التي يتعين التخلص منها بالقتل أو الاعتقال والتغييب والتعذيب. ولحسن الحظ أن منظمات حقوقية ومؤسسات صحفية عالمية، ساهمت بين الأعوام من 2016 وحتى  2018 وعبر جهد ميداني استقصائي في فضح هذه الممارسات والانتهاكات. وتبين أن أكثر من 18 سجناً أنشئت في المحافظات الجنوبية لتصفية تيار واسع من أنصار الشرعية والمقاومة الوطنية، بهدف إحلال أدوات أخرى جديدة تتبنى مشروعاً يتسق مع مخطط الإمارات والسعودية لتفكيك الدولة اليمنية وإضعاف مقومات استعادتها ضمن الحدود الدولية الحالية.

والأخطر من ذلك هو ما كشف عنه موقع "بازفيد" الأخباري الأمريكي في الخامس عشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، والمتمثل في تورط الإمارات في تجنيد مرتزقة هم لفيف من ضباط استخبارات إسرائيليين سابقين، وضباط سابقين في القوات الخاصة الأمريكية، ومشفوعاً بإفادات من المتورطين أنفسهم، وبفيديو عن العملية الفاشلة التي نفذها هؤلاء المرتزقة ضد مقر التجمع اليمنيي للإصلاح بمدينة كريتر في عدن في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2015 لاغتيال رئيس فرع التجمع اليمني للإصلاح بعدن عضو مجلس النواب، إنصاف مايو، بالإضافة إلى عشرات العمليات التي طالت عشرات السياسيين والدعاة والناشطين وضباط الجيش والشرطة.

انحراف خطير

لقد كان إذا انحرافاً خطيراً اقتضى في أهم محطاته الإجهاز على الحلفاء في الميدان، ونسف كل المقومات التي من شأنها أن تساهم في إنجاح هذا التحالف في مهمته العسكرية، والمتثملة في تحقيق أهدافه المعلنة.

لكن أكثر مظاهر الانحراف في مهمة تحالف الرياض ـ أبوظبي، هو التحول الجذري في المسار من دعم الشرعية إلى استهدافها بأشكال عدة من أهمها تقويض نفوذها في الجغرافيا "المحررة"، ومنع عودة قيادات الدولة والأحزاب إلى الوطن وحصر حركتها في المكاتب والمساكن الخاضعة للرقابة المشددة بالرياض،  ووضع عراقيل عديدة أمام الحكومة حتى لا تستثمر الموارد السيادية للدولة، وتمضي قدماً في تطبيع الحياة والشروع في إعادة البناء من خلال الاستفادة من الموارد المتاحة، وإقصاء ومعاقبة رموزها كما حدث لرئيس الوزراء السابق الدكتور أحمد عبيد بن دغر.

ومن المظاهر السيئة لهذا الانحراف، جنوح السعودية والإمارات نحو ممارسة الهيمنة الجيوسياسية التي تعني في أحد تجلياتها إحكام السيطرة على الجغرافيا والمنافذ والموانئ والسواحل ومضيق باب المندب، وتجريف كل مظهر لسيادة الدولة اليمنية في هذه المواقع، تماماً كما يحدث في عدن، وكما يحدث في محافظة المهرة الواقعة إلى الجنوب الشرقية من البلاد والمتاخمة لسلطة عمان، حيث تنتشر وبشكل كثيف قوات سعودية، ابتداء من  كانون الأول/ ديسمبر 2017، الأمر الذي ولّد ردّة فعل غاضبة لدى سكان المحافظة، وتحدياً جديداً في مسار الحرب يتمثل في التماس المستفز مع سلطنة عمان عبر تقييد علاقاتها بجارتها الغربية (اليمن) والتحكم بخيارات هذه العلاقة، وقطع الصلة مع المجال الحيوي للسلطنة الذي تكرسه قرون من العلاقات والتواصل متعدد المستويات بين البلدين الجارين.

ورأينا كيف انتهت مغامرة الإمارات في محافظة أرخبيل سقطرى بخيبة أمل كبيرة بعد أن صعدت الحكومة قضية الإنزال العسكري الإماراتي في الأرخبيل إلى الأمم المتحدة وانتهى باعتذار الإمارات، خصوصاً وأن عملية كهذه تجاهلت تماماً وجود رئيس وزراء اليمن آنذاك الدكتور أحمد عبيد بن دغر في أرخبيل سقطرى في زيارة روتينة، بل وجعل هذه الزيارة ذريعة من ذرائع الإنزال العسكري بعد أن اعتقدت الإمارات أن نفوذها على سقطرى بات أمراً محسوماً.

ورغم كل هذا الاستثمار المثابر في تحطيم مبنى الدولة اليمنية، إلا أن ارتدادات سياسات كهذه جاءت مخالفة تماماً لما توقعته الرياض وأبوظبي اللتان راهنتا على الإنقسامات وعلى حماس الجنوبيين للانفصال.

فنتيجة لتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي والانهيار الحاد للريال اليمني، والذي ساهم فيه بشكل مباشر عملاء إماراتيون ومضاربون يتبعون ميليشا الحوثي، برز تيار وطني يتبنى خيار مواجهة الحوثيين والتحالف وسياسة التجويع، تحركه دوافع وطنية متعددة الأبعاد، فهو في محافظة المهرة يعبر عن نزعة تحرر من النفوذ العسكري غير المبرر للسعودية، وفي محافظة أرخبيل  سقطرى يأخذ شكل المواجهة اليومية مع المحاولات الإماراتية تقويض وحدة وتماسك المجتمع، وفي شبوة يأخذ شكل الاحتجاج على الممارسات السيئة للأدوات العسكرية للإمارات وضداً على سياسة التجويع، وفي تعز يتجلى كحركة ثورية تأخذ بعين الاعتبار العوامل الثلاثة مجتمعة وتشكل التحاماً مع الحركات الاحتجاجية في بقية المحافظات.

تطرف الخيارات السعودية 

شكل وصول محمد بن سلمان إلى منصب ولاية العهد مؤشراً على دخول النظام الملكي في السعودية مرحلة جديدة اتسمت بالتطرف وعدم الرشد وبالرهان المكشوف على أعداء الأمة، بما  يقوّض كلّيا ما استقر من الأذهان عن هذه المملكة المحافظة.

لقد نظر ابن سلمان إلى حرب اليمن على أنها أحد ذرائعه الأساسية لإثبات جدارته في قيادة المملكة، وهي نقطة ضعف خطيرة نفذ من خلالها ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد الذي أقنع ولي العهد السعودي الجديد بإعادة  تحديد أهدافه العسكرية والسياسية من حرب اليمن، لتتجلى على هذا النحو، حرباً ضد الحلفاء وضد طموحات الشعب اليمني وضد السلطة الانتقالية، التي تخضع للابتزاز والاحتواء إلى حد أفقدها القدرة على المبادرة.

أظهر بن سلمان عدم اكتراث بالخطورة التي يمثلها الحوثيون، ومع ذلك ما يزال الجزء الحيوي من البلاد وكتلته الرئيسية تحت سيطرة الحوثيين، في وقت يتعمد فيه بن سلمان تعطيل الجبهات الأساسية المؤدية إلى صنعاء، وذريعته كما هي ذريعة شريكه في أبوظبي، هي الحيلولة دون استفادة الإصلاح من نتائج الحرب.

لذا فإن الحرب في ظل عدم رغبة النظام السعودي المغامر في مراجعة أهداف هذه الحرب وإعادة تقويم مسارها وتصحيح العلاقة مع حلفائه الأساسيين الداخليين فيها، تكاد تتحول إلى حرب عبثية وإلى معول هدم في بنيان الدولة السعودية نفسها وليس فقط الدولة اليمنية.

 

ـــــــــــ

 

كاتب ومحلل سياسي يمني

الأكثر قراءة اليوم